كتب علي قاسم ..
في عام 2019 أصدر ستيوارت راسل أستاذ علوم الكومبيوتر وأستاذ الهندسة بجامعة كاليفورنيا ببيركلي كتابا بعنوان “ذكاء اصطناعي متوافق مع البشر: حتى لا تفرض الآلات سيطرتها” يستكشف فيه فكرة الذكاء عند البشر وفي الآلات، ويعدد التطورات التي يجب أن تحدث في عالَم الذكاء الاصطناعي قبل أن نصل إلى الذكاء الاصطناعي الخارق.
ويَعرض راسل الذي شغل منصب نائب رئيس مجلس الذكاء الاصطناعيِّ وعلم الروبوتات التابع للمُنتدى الاقتصادي العالَمي، وعمل مستشارًا للأمم المتحدة في مجال الحدِّ من التسلح، في كتابه الطرقَ التي يُسيء بها البشرُ بالفعل استخدام الذكاء الاصطناعي، بدايةً من الأسلحة الفتَّاكة ذاتية التشغيل وحتى الفيروسات، ويؤكد على أنه إن حدثت التطورات المتوقعة وظهر الذكاء الاصطناعي الخارق، فإننا بذلك نكون قد أوجدنا كيانات أقوى بكثيرٍ منّا نحن البشر، فكيف إذن يمكننا أن نضمن ألا تكون لهذه الكيانات السيادة علينا؟
وتوقع راسل أن تترك التقنيات التي ما تزال في حيِّز التطوير؛ كالسيارة ذاتية القيادة والمساعد الشخصي الذكي، أثرا عميقا في حياتنا خلال العقد القادم. أما المنافع الاقتصادية والاجتماعية المحتملة التي قد نجنيها من وراء الذكاء الاصطناعي فهي كثيرة ومتعددة، مما يعطي زخما عظيما لمؤسّسات أبحاث الذكاء الاصطناعي.
هل يعني هذا التَّقدم السريع والمُتلاحق أنَّنا على وشك الدخول في مرحلة تسبقنا الآلات فيها وتتخطانا؟ يجيب راسل عن السؤال الذي طرحه بكلمة: “لا”، هناك حسب اعتقاده العديد من “الطَّفرات التقنية التي يجب أن تحدث أولًا قبل أن نشهد ميلاد آلات ذات ذكاءٍ خارق يفوق الذكاء البشري.”
مع ذلك يقر راسل أن التنبؤ بالطفرات العلمية أمر غاية في الصعوبة، ويعطي على ذلك مثلا هو الفيزياء النووية. ويستحضر واحدا من أشهر الفيزيائيين النوويين في مطلع القرن العشرين هو العالم أرنست رذرفورد مكتشف البروتينات والرجل الذي “شطر الذرة” كما يشير إليه راسل في كتابه.
كان الاعتقاد السائد حينها أن الوصول إلى الطاقة التي تختزنها نواة الذرة والانتفاع بها “ضرب من ضروب المستحيل” وفق تعبير راسل.
ما بدا مستحيلا حسب اعتقاد رذرفورد الذي أكد في 11 سبتمبر عام 1933 في الاجتماع السنوي للجمعية البريطانية لتقدم العلوم، أن “أي شخص ينشد مصدرا للطاقة من تحول الذرات هو كمن يطارد السراب”.
السراب الذي تحدث عنه أرنست رذرفورد، ونقلته جريدة “ذا تايمز” اللندنية، تحول إلى واقع بعد أقل من 24 ساعة على يد ليو سيلارد، وهو فيزيائي مجري هرب من ألمانيا النازية وكان يقيم في فندق إمبريال في ميدان راسل بلندن، واطلع على التقرير الذي نشرته جريدة التايمز.
ويذكر راسل في كتابه أن ليو سيلارد سجل براءة اختراع سرية لمفاعل نووي، وفي عام 1939 سجلت أول براءة اختراع لسلاح نووي في فرنسا.
المغزى من هذه القصة، كما يؤكد راسل، “أنَّ الرهان على عدم براعة العقل البشري هو رهان خاسر، خصوصًا عندما يكون مُستقبل جنسنا على المحك”.
بعد أربع سنوات من صدور كتاب ستيوارت راسل، شهد خلالها العالم تطورات متسارعة، استعرض كارلو فان دي ويجر، رئيس معهد أيندهوفن لأنظمة الذكاء الاصطناعي (EAISI) أمام خريجي الجامعة التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي أمام البشر.
بدأ كارلو حديثه بطرح سؤال حاسم: “من يقود عجلة التقدم حقا؟” ليؤكد أن تقدم الذكاء الاصطناعي ليس مجرد قفزة تكنولوجية، بل هو تحول محوري في كيفية تكملة الآلات للذكاء البشري. وأن هذا التطور يمتد إلى ما هو أبعد من “الأتمتة” البسيطة، مما يشكل تحديًا لنا لإعادة النظر في طبيعة الذكاء نفسه.
ومع اقتراب قدرات الذكاء الاصطناعي بسرعة من الذكاء البشري وتجاوزها في نهاية المطاف لهذا الذكاء، يدفعنا فان دي ويجر إلى التساؤل عمن سيتولى زمام الأمور. ويؤكد أننا معشر البشر نعرف كيف نبتكر، والدليل أننا “نجحنا دائما في التوصل إلى الحلول. “التكنولوجيا أعطتنا السبق على جميع الحيوانات. لقد أصبحنا صانعي الآلات. لقد حررت الآلات الأولى أذرعنا وأرجلنا من أداء العمل الشاق”.
وكما يحدث اليوم، هناك دائما من رحب بالآلة، وهناك من رفضها واعتبرها خطرا يهدد ليس فقط عمله، بل أخلاق وأسس المجتمع الذي يعيش فيه أيضا.
لإثبات ما ذهب إليه أعادنا فان دي ويجر 200 عام إلى الوراء وعرض صورة لمحتجين في مدينة مانشستر “يقتلون” آلات النسيج لأنهم اعتقدوا أن هذه الكيانات ستقضي على وظائفهم.
ومع التقاط الصورة الفوتوغرافية الأولى، اعتقد الناس أنهم لن يحتاجوا إلى الرسامين بعد الآن. ولكن على الفور، غيّر الرسامون عملهم ليصبحوا انطباعيين وتعبيريين وسرياليين، بدأ الفنانون في نقل انطباعاتهم عن الواقع بدلا من نقل الواقع نفسه وهوما أغنى الحركة الفنية التشكيلية ولم يضعفها أو يقتلها كما ظن المتشائمون.
وهذا أيضًا ما يتعين علينا مواجهته مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي ستصبح قريبا “خارقة”، وفق فان دي ويجر الذي راح يؤكد أن الخطر الحقيقي لا يكمن في أن الآلات ستبدأ في التفكير مثل البشر، بل في أن البشر سوف يبدأون في التفكير مثل الآلات: “إذا قمت بذلك، فلن تكون لديك أي قيمة مضافة في المستقبل. لذا فكر في أي جزء من عملك يعتمد فقط على اتباع القواعد. هل ستستمر في القيام بذلك؟ وفي الوقت المناسب، سوف تقوم أجهزة الكمبيوتر بذلك بشكل أفضل. وإذا كنت تحب العمل المتكرر، فلا بأس أيضًا. لكن لا تأخذ هذه الفكرة إلى عملك. اجعلها هوايتك!”
ويعتقد فان دي ويجر أن مثل هذا القرار من شأنه أن يسلط الضوء على إبداع البشر الذي لا يمكن تعويضه: “هذه الأفكار الغريبة التي تراودك، وهذه الأحلام السخيفة، وهذه القصص المضحكة التي تخطر على بالك – هذه هي القيمة الإنسانية المضافة التي ستكون أكثر أهمية في المستقبل. لذا اجعل هذه القصص ناجحة لأننا نحتاج إلى أغرب أفكارك لتخرجنا من المشاكل”.
تاريخ البشرية حافل بالأحداث التي تؤكد أن أي ابتكار جديد يرفضه العديد من الأشخاص، ولكنها أحداث تثبت أيضا أن الرافضين للتغير لا يفوزون. من يفوز في النهاية هم أنصار الابتكار الذي يأتي بحلول، ومنتج أفضل ويحسن من جودة الحياة. تمامًا كما هو الحال، مع الذكاء الاصطناعي.
ولكن لا بد من الاعتراف أن الأمر مختلف الآن، الابتكار الجديد لا يتوقف كما يقول فان دي ويجر عند أذرعنا وأرجلنا كما حدث في الماضي. اليوم أصبحت أدمغتنا مدعومة بالآلات. ومرة أخرى، يعتقد بعض الناس أنهم سيفقدون وظائفهم وسيطرتهم على حياتهم بينما يحتفظ بها الآخرون.
خلال كلمته، دعا فان دي ويجر إلى مستقبل يتعاون فيه الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري بدلاً من التنافس. لقد تصور الذكاء الاصطناعي كأداة، عندما يتم تسخيرها بشكل مسؤول، يمكن أن تحل بعض التحديات الإنسانية الأكثر إلحاحا، من تغير المناخ إلى الرعاية الصحية. وأعلن قائلاً: “علينا أن نبتكر أنفسنا للخروج من المشاكل”، وحث على اتخاذ موقف استباقي تجاه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحقيق الصالح العام.
واختتم كلمته بملاحظة متفائلة، ودعا إلى احتضان الإمكانيات التي يتيحها الذكاء الاصطناعي، على أن نبقى يقظين بشأن آثاره الأخلاقية والمجتمعية.
لم تكن كلمة كارلو فان دي ويجر مجرد خطاب حول الذكاء الاصطناعي، بل كان دعوة للعمل من أجل الابتكار المسؤول، والاعتبارات الأخلاقية، وتطوير التكنولوجيا التي تركز على الإنسان. ومع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، تذكرنا أفكار فان دي ويجر بالدور الحاسم الذي يلعبه البشر في تشكيل المستقبل حيث تعمل التكنولوجيا على تضخيم أفضل ما في البشرية، مما يضمن بقاءنا “على عجلة القيادة”.
آخر الأخبار تقول إن شركة “أوبن إيه آي” مبتكرة برنامج “تشات جي بي تي” أطلقت أداة جديدة لإنشاء مقاطع فيديو بناء على طلب نصي، وأيلون ماسك أكد أن أول مريض تلقى غرسة دماغية من نيورالينك نجح في التحكم بفأرة كمبيوتر من خلال تفكيره.
يحدث هذا ونحن مازلنا في الميل الأول من الرحلة، ماذا سيحدث مع اقتراب أوبن إيه آي من تطوير ذكاء اصطناعي خارق (ASI) وكيانات تتجاوز ذكاء البشر؟ وكيف نضمن ألَّا تُسيطر علينا تلك الكيانات؟
المصدر: العرب