كتبت رشا الأطرش في المدن
فرح عمر، وربيع المعماري، وقبلهما عصام عبد الله، قتلتهم إسرائيل. بل اغتالتهم عن سابق ترصّد، في خلال تأديتهم لعملهم الصحافي في جنوب لبنان. وقبلهم وبعدهم، قتلت أكثر من 50 صحافياً في فلسطين منذ السابع من أكتوبر الماضي، وفي الغالب الأعم عن عمد، مثلما تقصّد القصف الإسرائيلي استهداف بيوتهم وعائلاتهم، فتهدم ما تهدم وسقط مَن سقط مِن أحبّتهم ضحايا أو مصابين.
إسرائيل تصوّب على الصحافيين. كأن الآلة العسكرية الإسرائيلية تقول للعالم إنها لا تحسب حساب ملاحقات جنائية أو دولية أو أممية. لا تهزها شكوى، ولا يرف لها جفن أمام فضيحة، حتى لو كشفها الإعلام الذي وافقت سلطاتها على مرافقته لقواتها… الإعلام المفترض أنه “متعاطف” معها إلى هذا الحد أو ذاك. وطبعاً لا ترمش إسرائيل مرتين قبيل جعل جريمة مُتصوّرةٍ ومخططٍ لها، واقعاً من أشلاء ودماء أبرياء، لم يكونوا في ميدان الحرب، قريبين أو بعيدين، إلا لنقل صورة وخبر وإجراء مقابلة وتوثيق دقائق الحدث. كلمة صحافة على صدورهم وسياراتهم وخوذهم أوضح من شمس الظهيرة.
تقترف إسرائيل جريمة الحرب مثلما يقول واحدنا لجاره صباح الخير. القوانين الدولية، ومواثيق حماية المدنيين، وخصوصاً الصحافيين، أوراق مبلولة. يريد الجيش الإسرائيلي لحَمَلة الميكروفونات والكاميرات والموبايلات، أن يتجرعوا مياهها المسمومة. وما يعجز عنه سمّ الترهيب، تتكفل به الصواريخ.
العقل العسكري الإسرائيلي يريد حفلة جنونه في ظُلمة دامسة، القتل والتدمير وإعدام العُزّل في العتمة، رغم أنه يقترف فظاعات بالجُملة، في حق المدنيين والأطفال وطواقم الإغاثة والإسعاف، والآن الصحافيين، بعلانية مرعبة. ليس خجِلاً ولا مُلملِماً أفعاله خلف ستارة أو تحت سجادة نارية. لا يخشى مساءلة، ولا تقلقه بيانات سياسية وخطابات متوعدة وملفات حقوقية. لكن أضواء الشاشات، كما يبدو، جرائمه مُضاءةً في الشاشات، تزيده شراسة، أكثر بكثير من شبح المحاسبة التالية. نقتلهم ونستريح، يقول العقل للأيدي التي تُطلق على الصحافيين موتاً أكيداً ومحققاً.
وفي ضوء هذا كله، ماذا يفعل الصحافيون؟ إن كان الصحافيون الفلسطينيون في مرمى النار، مُجبَرين، بحكم الجغرافيا والحصار، انعدام المناطق “الآمنة” بالضد من المزاعم الإسرائيلية، والاكتظاظ المضاعف في غزة المعتبرة أصلاً من أكثر البقاع السكّانية اكتظاظاً في العالم… فماذا عن الصحافيين اللبنانيين الذي ما زالوا، رغم احتياطاتهم ومؤسساتهم، يضعون أرواحهم على كفوفهم كلما توجهوا جنوباً؟
الجنوب الذي هجر معظم الإعلام الدولي والغربي نقاطه الساخنة، هل تفكّر وسائل الإعلام اللبنانية والعربية في جدوى كل مهمة جنوبي لبنان تكلِّف بها طواقمها؟ هل ثمة معايير واضحة للمادة الإعلامية المرجوة من وقوف مراسلين ومصورين في موقع ما، غير ختام رسالة تُعدَّد فيها الصواريخ بـ:”من بلدة كذا.. كان معكم فلان”، بما يثبت “برستيج” الحضور في قلب الحدث؟ ما القصص الصحافية التي تنشد الإدارات الإعلامية إنتاجها في الجنوب الآن؟ كم عددها، وما مدى عمقها وشموليتها وأهميتها الفعلية بالنسبة للرأي العام، ولا يمكن إنتاجها من بُعد، وتستحق المخاطرة بأرواح المراسلين مع ماكينة عسكرية معروفُ ومؤكدٌ انفلاتها من كل عقال ورادع أخلاقي وقانوني؟
والأهم، هل الصحافي المُرسَل إلى الجنوب مُدرّب ومؤهل وذو خبرة بشكل يخوله فعلاً العمل في مناطق حروب وصراعات؟ هل يملك معدات حماية كافية؟ هل يجيد استخدامها واحتساب تحركاته على مؤشر واقعي واحترافي للخطر؟ مسؤولية مَن التأكد من توافر هذا كله؟
وماذا عن الدولة اللبنانية؟ هل هو كافٍ عملها البيروقراطي المتمثل في رفع الشكاوى للهيئات الأممية والتصريح بالشجب والإدانة، بعد وقوع الواقعة وموت صحافيين وصحافيات ومرافقيهم من أدلّاء مدنيين في الجنوب، بسهولة اصطياد العصافير؟ هل آن الأوان لخطة منسقة ما بين الحكومة والجيش اللبناني وقوات “اليونيفل” وحتى “حزب الله”، لإعلان مناطق عسكرية خطرة على المدنيين والصحافيين؟ أسئلة لا بد لها من إجابات سريعة وعملية.
عمل الصحافيين على الأرض مهم، بلا شك. إذ لا يُحبّذ الاتكال فقط على واردات الإعلام الحربي أو الحزبي. لكن، فعلياً، معظم مادة المراسلين اللبنانيين هي من هذا الإعلام الحربي والحزبي ومن اتصالات مع قيادييه.
لا تبرير للجريمة الإسرائيلية بحق الصحافيين، ولا تحويل للمسؤولية الكاملة باتجاه وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة، لكنه التفكير في كيفية تجنيب الإعلام مزيداً من الدماء. الصحافي ليس مقاتلاً إلا بمهنته، ليس مشروع شهيد، ومقتله هو الاستثناء المفجع، لا القاعدة المفترضة مسبقاً. وإن لم تحمِه طبيعة عمله في الميدان حيث لا تقيم إسرائيل وزناً لأي تمييز بين عسكري ومدني، فيجب أن يحمي نفسه، أولاً من حماسته إن غلبت مؤهلاته وعقلانيته. كما يجب على مؤسسته ودولته وجيش دولته تأطير شبكة أمانه بالقدر المستطاع.
يبقى القول أن لا سَبْق صحافياً أو ناشطياً في تصوير دماء الزملاء وأشلائهم، ولا انتصار لهم في مثل هذا الانتهاك لجثامينهم كضحايا، بل هو العكس تماماً. الإعلاميون ومستخدمو السوشال ميديا، بنشر وتداول هذه الصور، الموجعة لعموم المتلقين ولأهالي الضحايا وأصدقائهم، لا يفيدون أحداً إلا تغذية إثارة رخيصة. بل إنهم يؤذون الضحايا ويهينون ذكراهم. فلتُنشر صورهم أحياء باسمين، ولتُترك صور الجريمة الصريحة توثيقاً يُدرج في الملفات القضائية.