كتبت بتول يزبك…
لم يكن قد بقي إلّا أن تنفجر الأجساد أمامهم، ليقول اللّبنانيون إنّهم رأوا كل شيء، حرفيًّا. حتّى اللحظة، لم يمتص السكّان في المدن اللّبنانيّة وتحديدًا العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبيّة، الصدمة.. بل وقفوا أمام “الحدث الأمنيّ” الجلّل، الشبيه بكل التصورات السّورياليّة للخيال العلميّ، مفجوعين، وهم موقنين تمام اليقين، أن كل الجهود الدبلوماسيّة والسّياسيّة وأن كل “التطمينات” الّتي تستبعد سيناريو الحرب الشاملة أو التصعيد، اضمحلت. وأدركوا وعلى حين غرّة، أنّهم كانوا في “ليمبو” المواجهات، وها هم اليوم يتهادون نحو السّيناريو الجهنميّ الأفظع، مهما اختلفت مسمياته.
المأساة هائلة. أما المُروّع أكثر فهو الأسلوب اللئيم الذي اعتمدته إسرائيل، في عمليتها المُسماة إعلاميًّا بـ”تحت الحزام”، وهو في تمكّنها من تحويل لبنان كاملًا إلى ساحة حربٍ لا تُرى. حربٌ من دون رصاصةٍ واحدة. خرقٌ استخباراتيّ من الطراز الأوّل لم يكن اللّبنانيون يتخيلون حتّى وفي أسوأ كوابيسهم وأكثرها سوداويةً وإيلامًا، أنّهم قد يشهدون الحرب في بيوتهم وشوارعهم، تدنو منهم بلا أي سابق إنذار.
حالة طوارئ صحيّة
عند السّاعة الثالثة والنصف، وفي كل شارعٍ عموميّ أو فرعيّ في الضاحيّة الجنوبيّة، سُمع دويّ الانفجار نفسه، المتبوع بصرخاتٍ فظيعة جراء الألم الممضّ الذي داهم حَملة أجهزة الـPagers اللاسلكيّة، من دون أن يفهم السكّان يقينًا طبيعة الهجوم، إلّا بعد نحو السّاعة وتوافد التقارير الّتي أشارت لخرقٍ تقنيّ طال حزب الله. وسرعان ما غرقت الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت، في ضوضاء سيارات الإسعاف والدفاع المدنيّ، وصراخ الجرحى. وازدحمت الشوارع بالمواطنين وسياراتهم، من دون أن يكون لديهم وجهة محدّدة ليقصدونها.
أما حالة الذعر والهلع العموميين، فقد واكبتها “المدن” ميدانيًّا، وتابعت آخر مستجدات الهجوم السّيبرانيّ المتزامن (كما يُرجح حتّى اللحظة) في الشارع وفي المشافي الأساسيّة في بيروت الّتي استقبلت الجرحى، وهي كل من: السّاحلي، الحياة، AUBMC، جبل لبنان والمقاصد. هذا وبلغ عدد الضحايا وفي الحصيلة غير النهائيّة الصادرة عن وزارة الصحّة العامّة، نحو ثلاثة آلاف شخص، بينهم 200 في حالة حرجة، واستشهد 9 أشخاص على الأقلّ، بينهم طفلة من بلدة سرعين البقاعيّة، وعناصر من حزب الله بينهم أبناء مسؤولين في الحزب.
وفي مختلف فروع الصليب الأحمر، فضلًا عن ساحات المستشفيات والمستوصفات، في العاصمة بيروت وضواحيها، تجمهر مئات المواطنين للتبرع بالدم، وسط تهافت الدعوات الإنسانيّة للتبرع. وفي هذا السّياق أعلنت جمعية “الإسعاف اللّبنانيّة” المشرفة على جهاز الطوارئ، في بيان، أن “فرقًا من الطواقم الإسعافيّة العاملة في الشمال في مراكز طرابلس والقلمون توجهت إلى العاصمة للمشاركة في أعمال الإسعاف والنقل إلى جانب الأجهزة المعنية المختلفة، وذلك على إثر سلسلة الانفجارات في أجهزة “البايجر” التي أدّت إلى سقوط عددٍ كبير من الإصابات في بيروت والجنوب ومناطق أخرى”. وأشارت إلى أن “مراكز جهاز الطوارئ والإغاثة في البقاع والشمال رفعت جهوزيتها للاستجابة لأي طارئ والمساهمة بما تتطلبه الأوضاع الميدانيّة الحاليّة”. ودعت “جميع المواطنين إلى تسهيل عمل الطواقم الإسعافية”.
وأعلن مستشفى جبل عامل في صور أن “أقسام الطوارئ في المستشفى عالجت أكثر من 400 إصابة من صور وضواحيها، 80 بالمئة من المصابين غادروا و20 بالمئة يتلقون العلاج في المستشفى ولا يزالون”. كما وأعلن مستشفى “حيرام” في صور أن “قسم الطوارئ في المستشفى استقبل أكثر من مئة إصابة تمت معالجة 60 بالمئة منهم وغادروا، وبقي 40 بالمئة يتلقون علاجهم في المستشفى”.
وتفاعلًا مع حالة الطوارئ الّتي فرضت نفسها، تعقد لجنة تنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات الوطنيّة اجتماعًا، في تمام التاسعة من صباح الأربعاء اجتماعًا في السرايّ الحكوميّ لمناقشة الاعتداء الإسرائيليّ الأخير، للبحث في جهوزية الوزارات والجهات المعنية بخطة الطوارئ الوطنية..
خضّة هائلة
وفي وقتٍ لا يزال غير معروف فيه طبيعة الهجوم ولا كيف تمّ (بين التقديرات الّتي تُشير إلى إختراقٍ أمنيّ أو تحمية بطاريات الليثيوم لدرجة تفجيرها أو تفخيخ الأجهزة بالمتفجرات)، ولا حتّى أي تفاصيل عن كيفيّة شراء الحزب للدفعة هذه من أجهزة الـ Pagers وتوزيعها على الكوادر، تضجّ الكواليس الدبلوماسيّة استعدادًا للسيناريوهات الّتي فُرضت ما بعد الهجوم هذا. وسط رفع حالة التأهب إلى أقصاها، عند طرفي الاقتتال -حزب الله والحكومة الإسرائيليّة- حيث تعقد الأخيرة اجتماعات سياسيّة وأمنيّة وعسكريّة للبحث في تداعيات الضربة الّتي وجهتها يوم الثلاثاء إلى حزب الله، وتأثيراتها واحتمالات ردّ الحزب، الذي تعرض لخضّةٍ هائلة، إثر الهجوم هذا. فيما أعلن البنتاغون، أن “لا تغيير على تموضع القوات الأميركية بعد الهجوم على أجهزة الاتصال بلبنان” وأضاف “نعتقد أن الدبلوماسية هي أفضل وسيلة للحد من التوتر على امتداد الحدود بين إسرائيل ولبنان”.
في المقابل، وإن كانت الانقسامات الداخليّة بين القوى السّياسيّة اللّبنانيّة قد تمظهرت جليًّا خلال الأشهر السّابقة، تجاه مسألة الجبهة الجنوبيّة، فإن الهجوم هذا، شكّل نقطة تلاقي بين القوى، الّتي شجبت بغالبيتها الاعتداء، وتضامنت مع الضحايا وذويهم. وزارت وفود من مختلف القوى السّياسيّة الضاحية الجنوبيّة لبيروت، لتقديم التعازي لعضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي عمّار، الذي استشهد نجله.
المواقف السياسية
وجاءت أبرز المواقف من العزاء فضلًا عن التصريحات الإعلاميّة، كالتالي:
قال رئيس مجلس النواب نبيه بري: “هو دين الاحـتلال الإسرائيلي ومستوياته الأمنية والعسكرية والسياسية. الغدر، والإرهاب، والقتل الجبان على نحو يخالف كل القواعد الأخلاقية والقانونية والإنسانية”. واعتبر برّي أن “ما أقدمت عليه إسرائيل عصر اليوم لا يرقى الى مستوى المجزرة فحسب، إنّما هو جريمة حرب موصوفة لم يعد جائزاً من المجتمع الدولي الإكتفاء بعبارات الإدانة والشجب والإستنكار”، داعيًا “العالم بأسره إلى تحرك عاجل للجم آلة الإرهاب الإسرائيلي التي إن استمرّت على هذا النحو من التفلت والإجرام فهي آخذة المنطقة والأمن والإستقرار الاقليميين نحو شر مستطير”. وتقدّم بري بـ”أحرّ التعازي والصبر والسلوان لعوائل الشهداء، متضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالشفاء العاجل للجرحى، وقدرنا المقاومة والصمود وإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة”.
وزار وفد من الحزب التقدمي الإشتراكي، ضم عضوي كتلة اللقاء الديمقراطي النائبين وائل أبو فاعور وفيصل الصايغ، أمين السر العام ظافر ناصر ونائب رئيس الحزب زاهر رعد، الضاحية الجنوبية، مقدّماً التعازي لعضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي عمّار، باستشهاد نجله بالاعتداء الإسرائيلي، بإسم الرئيسين وليد وتيمور جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي.
وصرّح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، مساء الثلاثاء، أن “الصراع طويل مع العدو الاسرائيلي وعلينا ان نستوعب الضربة وعلى حزب الله ان يدرس وسائل الرد بتروٍ والحرب مفتوحة”. واعتبر جنبلاط، في حديث لقناة “الجديد”، أن “الموفد الأميركي آموس هوكشتاين جزء من السياسة المنحازة الاميركية الاسرائيلية وليس هناك فرق بين هذا وذاك في الرئاسة الاميركية فالعدوان مستمر على غزة والوتيرة الاسرائيلية متصاعدة ويبدو ان هناك حلقة جديدة وعلينا ان نكون على استعداد”. وقال: “المقاومة الوطنية وجدت وردعت وضربت المحتل الاسرائيلي واتمنى وجود التضامن”. وأضاف جنبلاط، “اليوم يصيبنا العدو في الاختراق الامني السيبراني ونحن سنجد له حلاً والمهم ان لا نتراجع ولا نهزم”. ورأى، انه “لا يجب تحميل الحكومة ما لا تستطيع فعندما يُعطل بعض الافرقاء في لبنان عملها ويرفضون انتخاب رئيس ووعندما يتم تعطيل حكومة ميقاتي من الداخل اللبناني، فإن هذا الامر تآمر على الحكومة”. وختم جنبلاط: “فليتفضل الثنائي المسيحي ويتفق ويتصارح ثم يقوم بالتسوية فأي ثنائي لا يستطيع ان يفرض مرشحاً للرئاسة، فالتسوية هي السبيل لانتخاب رئيس”.
وأشار رئيس “التيار الوطني الحر”، النائب جبران باسيل، عقب تقديمه واجب العزاء باستشهاد نجل النائب علي عمار على رأس وفد من “التيار” وتكتل “لبنان القوي” إلى أن “ما حصل اليوم هو اعتداء على كل لبنان وليس على حزب او طائفة فيه”. وأضاف: “نتألم لما حصل وقلوبنا معكم في هذا الظرف الصعب الذي يعبر فيه اللبنانيون عن وحدتهم وعن تضامنهم مع بعضهم البعض”. ورأى باسيل انها “قد تكون مناسبة لنوعي بعضنا، وفي هذه اللحظة التي تعتدي فيها إسرائيل، علينا أن نظهر قوتنا بوحدتنا التي وحدها تحمينا”، معتبراً أنه “في الظرف الصعب نقف مع بعضنا البعض فكلٌ منا معرض للإعتداء من الخارج”. وختم: “إنها دعوة للوعي والوحدة والتضامن ونعزي اللبنانيين وأنفسنا وجميع أهالي الشهداء، وليرحم الله الشهداء وليبلسم جراح جميع المصابين”.
هذا، فيما قال النائب إبراهيم منيمنة، أن “مشاهد التضامن اللبناني في المستشفيات هو ما نعهده من الشعب اللبناني. نكرر دعواتنا لاعلى درجات التضامن الوطني في هذا الظرف الصعب”.