جاء في “الراي الكويتية”:
ستُشكّل الزيارةُ التي بدأها الموفد الرئاسي الفرنسي جان – إيف لودريان لبيروت أمس محطةً جديدةً في سياق جَعْل مَن يُمْسِكون بـ «القفل والمفتاح» في ملف رئاسة الجمهورية يَنقلون «عدوى» إغراقِ المبادرات بمناوراتٍ تُفْضي من حيث لا يَشعر أصحابُ المهمات الشائكة بأن ما يَجْري واقعياً هو «إعادة تدوير» للوساطة ومرتكزاتها بما يتلاءم مع دفتر شروطٍ يبقى جوهره ثابتاً وإن ظهرتْ بعض المرونة الشَكلية حيال مقترحاتٍ أو أخرى، من دون أن يَخْرج الأمرُ عن إطار «اللعب على الكلام» والإمعان في تقاذُف المسؤولية الداخلية والتعمية عن استرهان الانتخابات الرئاسية لمقتضياتٍ إقليمية كما لحساباتِ الإبقاء على «التحكّم والسيطرة» على الواقع المحلي ذات الامتداد الخارجي.
وهذه الخلاصة التي رسمتْها أوساطٌ سياسية على خصومة مع الثنائي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري، تعكس بلا أدنى شكّ شبه انعدام أي فرصةٍ لأن تشكّل مهمة لودريان، الذي باشر لقاءاته أمس بزيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في حين يزدحم برنامجه اليوم بمحطاتٍ مع بري ومختلف القادة السياسيين، مَدْخَلاً لإحْداث كوةٍ في جدار الأزمة الرئاسية المستعصية، ولو مهما نبّه الموفد الفرنسي من مخاطر ترْك لبنان «فاقداً للجاذبية» و«يزحل» في اتجاه «منطقة الموت» من بوابة حربٍ في الجنوب مفتوحة على شتى الاحتمالات، وهو الذي سبق أن وصف واقع «بلاد الأرز» في 2020 (في ظل أزمة تشكيل حكومة عقب انفجار مرفأ بيروت) بأنه يشبه «غرق سفينة«تايتنك»لكن من دون موسيقى».
وتأتي زيارة لودريان، الذي تشارك بلادُه في مرحلة «العصف الفكري» المتعلّقة بإيجاد أرضيةٍ لوقف جبهة الجنوب، تارة عبر مجاهرةٍ بوجوب فصْلها عن حرب غزة وتارة أخرى عبر صياغاتٍ «تخفيفية» توحي بتسليمٍ بأن لا بحث في «اليوم التالي» لبنانياً والذي يرتكز على تطبيق القرار 1701 إلا حين يتم أقله بلوغ هدنة في غزة، على وقع ما بدا إحباطاً مبكّراً من فريق «الممانعة» وبلسان الرئيس بري لِما جرى تَوَقُّع أن يحمله: سواء على صعيد استخلاص أن 18 شهراً من المراوحة في الملف الرئاسي تستوجب فتْح الطريق أمام «الخيار الثالث»، أو استطلاع إمكان الدفْع نحو «حوار لايت» بين اللبنانيين يمهّد لفتْح البرلمان والدعوة إلى جلسة مفتوحة بدورات متتالية وفق ما كان عبّر عنه بيان سفراء «مجموعة الخمس» حول لبنان (تضمّ إلى فرنسا، الولايات المتحدة، السعودية، مصر وقطر) مع حضٍّ على إنجاز الاستحقاق بحلول نهاية الجاري.
ولم يكن عابراً أن يتعمّد المرشّح المدعوم من «حزب الله» وبري أي سليمان فرنجية، عشية وصول لودريان، تأكيد ثباته على ترشّحه وعدم استعداد الثنائي للتخلي عنه، وهو ما يُشكّل «تنفيساً» غير مفاجئ من «الممانعة» لمسعى اجتراح مَخرج على قاعدة الخيار الثالث (غير فرنجية ومرشح تقاطع المعارضة والتيار الوطني الحر اي جهاد أزعور) الذي سبق للودريان أن جس النبض حياله خلال زيارته في ديسمبر الماضي، في حين جاء تكرار رئيس البرلمان تمسُّكه بآليته لحوارٍ لا يقلّ عن أسبوع يتولى هو رئاسته بمثابة «إجهاض ناعم» لكل فكرة التشاور المحدود زمنياً، وينطوي فعلياً على تَمَسُّك بأن الاستحقاق الرئاسي ومهما طال الزمن لا يُبت بـ«نصاب عددي» على قاعدة التنافس الديموقراطي (وفق ما تصرّ المعارضة) بل بـ«نصابٍ سياسي» داخلي – خارجي يعكس التوازنات الكبرى «الكاسرة» في مفهوم الممانعة لـ«التعادل السلبي» في البرلمان وموازينه.
ومن هنا يتمّ التعاطي مع محطة لودريان على أنها ستضاف إلى جولاته الخمس السابقة منذ تكليفه «المهمة المستحيلة»، وإن كان لقاؤه المرتقب ايضاً مع سفراء «الخماسية»، يؤشر إلى رغبة في تظهير أن المجموعة «على موجة واحدة» في ما خص مقاربة الملف الرئاسي كما بإزاء أي خطوات لاحقة قد يستوجبها كسْر الحلقة المفرغة عبر إجراءاتٍ «غير تقليدية»، علماً أن خلاصة مهمة الموفد الفرنسي ستكون على طاولة الاليزيه الذي يستعدّ لاستقبال الرئيس الأميركي جو بايدن (بعد 8 أيام) الذي تتولى بلاده أيضاً هندسة جِسْر باتجاهين في ما خص جبهة الجنوب: الأول لتأمين «خط رجعة» للبنان من الحرب المحدودة حتى الساعة والضغط على اسرائيل لمنع توسيعها، والثاني لتعويم القرار 1701 مع إدخال «تحديثاتٍ» تراعي ما أفرزتْه المواجهات المشتعلة منذ 8 اكتوبر من هواجس ووقائع لن تسلّم بها تل أبيب.
«استراحة محارب»!
وقد حطّ لودريان في بيروت على وقع تَوَهُّج جبهة الجنوب في الأيام الأخيرة، وإن كانت ساعات نهار أمس حملت ما بدا «استراحة محارب» مع تراجُع حدة المواجهات، غارات من اسرائيل وعمليات من «حزب الله»، في الوقت الذي كانت العين على رفح المسفوكة الدم، وتسليم تل ابيب الوسطاء المصريين والقطريين اقتراحها لتجديد مفاوضات تبادل الأسرى مع «حماس»ووقف إطلاق النار في غزة وهل سيكون كفيلاً بتجديد الآمال ببلوغ هدنة.
ولاحظت دوائر متابعة أن الخشية لم تهدأ في بيروت من أن يعمد بنيامين نتنياهو، في كنف أي تهدئة في القطاع أو بعد «الانتهاء» من رفح، إلى التوجّه نحو جبهة جنوب لبنان على قاعدة «إلى الشمال دُر» ودائماً وفق معادلة «التصعيد قبل التهدئة» التي لوّح بها كمدخل لجر الجميع «على الساخن» إلى حلّ بدأت طلائعه بما يبدو «منطقة دمار شامل» يُرسيها على شريط القرى الأمامية اللبنانية التي يُشتمّ من وحشية قَصْفها أنه يُراد جَعل الحياة فيها «مستحيلة» فتكون بحُكم الأمر الواقع بمثابة No man’s land التي تسعى لإقامتها وجعْلها خالية من مقاتلي حزب الله وأي وجود له بما يُشكّل ضمانة لمستوطني الشمال للعودة إلى منازلهم.
ولعلّ هذه الخشية هي التي تفسّر نوعية الردّ من «حزب الله» على الاستهدافات الاسرائيلية، مع محاولةٍ للاستفادة من «خاصرة رخوة» بدا أنه نجح في إحداثها في المستوطنات المقابلة للحدود اللبنانية والتي باتت بين «ناريْ» عمليات الحزب وإحباط المستوطنين وتمرُّد بعضهم على الحكومة.