كتب يقظان التقي في العربي الجديد…
ينقضي عام 2023 في لبنان على غموضٍ، مخلّفاً وراءه قلقاً مما هو آتٍ. كل الأزمات كأنها مما هو عادي، ودونه تناقض في كل شيء، وتمادٍ في المفارقات. أن يعيش اللبنانيون أجواء الأعياد وبهرجة الألوان ومقتضياتها من الحفلات والليالي الفنية، بين أغاني الحب وأغاني الحرب، في وقت تقرع الحرب أبوابهم في مختلف التصريحات والتعابير والنبرات العالية لقادة الكيان الإسرائيلي. يجرب المرء أن يكون واقعياً، أن يكون متفائلاً، والتحلي بالإيمان، أن الخير ينتصر على الشر، وإلا ما استمرّت البشرية نهائياً، فتعود مقولة “قوة لبنان في ضعفه”، لدرء ما يمكن من أخطار مقبلة، من نوع الجهد الذي يبذله الجانبان، الأميركي والفرنسي، وأطراف عربية ودولية أخرى لمنع هجوم إسرائيلي واسع على لبنان. وهو ما حملته وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، في زيارتها أخيراً بيروت، محذّرة المسؤولين من الرهان على انفراجات، وبأن “إسرائيل حضرّت نفسها وأعادت تمركز قواتها لشن حرب بشكل مختلف، وهي مصمّمة على تحقيق أهدافها، وهي أكثر معرفة بالجنوب من غزّة”.
يعرف اللبنانيون أن 2023 كان عام الحرب والغزو والدمار في غزّة، مع ذلك يتمسكون بما يعتبرونها “ثقافة الحياة”، وفي جوهرها مقاومة لكل واقع قسري أو كارثي، تعرّضوا له في السنوات الأخيرة. عاشوا الحروب والمآسي والظواهر اللاإنسانية والسياسية والطائفية والبربرية والإفلاس المادي والتفجيرات والتهجير والنزوح. إنها “الفانتازيا” اللبنانية في الإقبال على المطاعم والفنادق وليالي السهر والملاهي، وهي آخر ما تبقى، وآخر ما يملكون في مواجهة أعراض الحرب بعد سلسلة أحداثٍ لم يشهد لها العالم مثيلاً مع نهاية عام من عنف ومجازر وإهدار أرواح الفلسطينيين في حرب إسرائيلة عبثية/ إرهابية/ فوضوية، يخشاها اللبنانيون كثيراً. وعلى الرغم من محاولة حصارها بالرجاء والتمنّي بعدم انخراط حزب الله في مغامرة دموية، في ظل أوضاع لبنان الصعبة اقتصادياً وسياسياً وتعطيلاً، حيث تبدو الدولة نفسها ومؤسّساتها مهددّة.
لا يتعب اللبنانيون وهم يعيشون جنون الفرح “الغريزي” في عمق الظواهر المقلقة. وهذا ما حملته حفلات نهاية العام مع عودة المغتربين (300 ألف مغترب)، الكفيلة، أولاً وأخيراً، بالحفاظ على إرث العائلة اللبنانية وفرادتها وتمايزاتها، فالغناء جامع الليالي في تهويمات “جنون الليالي، وفنون المقاولات وسلطانها”.
أجواء لا تنسي التعبير عن الأسى الكبير الذي يشعر به سكان الجنوب، لا سيما من المسيحيين الذين نزحوا من بيوتهم وقراهم (65 ألف نازح)، انتقلوا إلى أماكن آمنة في هجرة جديدة من الأرض التي تلتهمها القنابل “الكربونية/ الفوسفورية”. هجرة مسيحية تتأثر بالأحداث أكثر من سواها، وشكل الجنوب معها يتغيّر في وقت يرتفع صوت الكنيسة المارونية في بكركي “عن الشراكة الوطنية في قرار الحرب والسلم”، والمسيحيون اللبنانيون والعرب في قلب معركة الحرية والكرامة والمواطنة، وعن “شرعية الدولة الوطنية الجامعة”، و”التعددية” التي حمت لبنان طويلاً، بما فيه حزب الله في عامي 1996 و2006، التي تواجه باستخدام لغة التخوين والتكفير، أو لغة التشكيك بالآخر. غادر نحو 60% من سكان القرى المسيحية على الحدود قراهم خوفاً من اشتعال الجبهة. احترقت بساتين الزيتون، ولم يبق إلا بضع مئات من السكّان من أجل مراقبة محيط القرى من السرقات. وينقل عن قوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان (يونيفيل) أنها لن تتدخّل في أي نزاع مقبل، ولن تقوم بأي عمل غير المراقبة، ولن تحرّك قواتها في أي حرب، تتوسّع فيها المعارك دولياً. فروسيا والصين وأحزاب الممانعة تعتبرها جزءاً من تحالف الأطلسي، لذلك ستكتفي بعدم أخذ أي دور فعلي لحماية المدنيين. إنها مأساة غادرتها قداديس الليل والأعياد والاستقرار. نزوح حقيقي مسيحي من لبنان وسورية حتى لو لم تتأثر قراهم بشكل مباشر. فيما من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا بكل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفعاليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ.
تجري اتصالات كثيرة في السرّ والعلن، وثمّة حرص دولي (كان لافتاً البيان الثلاثي بين الصين والسعودية وايران في التشديد على وقف إطلاق النار، والتعبيرعن مصلحة الصين في السلام في المنطقة)، يقابله الحرص نسبياً في الداخل على إبقاء الكيان في حدود معقولة من عناصر القوة والضعف معاً (ماء ونار)، ما يجعل حزب الله مقيّداً بـ”بالغموض” بشأن شرعية الدولة التي يمكن حفظها بانتخاب رئيس للجمهورية أولاً.
وحدها الدولة تستطيع أن تدافع عن كل اللبنانيين، الحزب وعبره مصلحة الجنوبيين. كما الحال في أروقة نيويورك والعمل مع المجموعة الدولية. ويظن أن الحزب، قد لا يأمن أن إيران (لها مصالحها) ستحميه أو تدافع عنه إلى النهاية (الشعب الإيراني أولويته الدولة، وغير مهتم والصحف كثيراً بشؤون القضية الفلسطينية ومعاناة أهل غزّة).
تستثمر الدول الكبيرة الحروب في استنفاد الأخصام بين حربي أوكرانيا وغزّة، وسلوك حماس وبطولاتها وصمودها المذهل الذي كسر المستحيل أمام المحتل الإسرائيلي، سلوك مقاوم. ليست دولة، ولكن معظم الناس يصفون ما يحدُث في غزّة بالحرب. تكتسب الحروب الفعلية طاقتها العنيفة من القوى التي تفجرها خارج حدود الدولة/ حالة الدين والكراهية العرقية، أو العنصرية السياسية في إسرائيل. وتعي حماس في صراعها أن العالم لا ينفك يتكلم مع السلطة الفلسطينية، ولا بديل عن مشروع تحرّري وطني فلسطيني شامل، ينخرط الجميع فيه في بناء الدولة الفلسطينية المقبلة. هذا يعني أن الحزب، في اللحظة التي يظهر فيها عقلانية لمنع إسرائيل من توسعة الحرب ومفاعيلها التدميرية، يحاول تفعيل “قواعد الاشتباك” التي كان معمولاً بها بعد حرب 2006.
تمارس إسرائيل كسر المعادلة الحدودية مراراً وتكراراً في استهدافاتها حتى البعيدة منها، وجديدها أخيراً اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني في سورية، رضى موسوي، في عملية غير منفصلة عن تصعيد الحرب في ظل الضغوط القوية التي تتعرّض لها الحكومة الإسرائيلية في الداخل، والاستفادة من حجم الدعم الدولي الواسع لها لترسيخ حدودها الأمنية.
تناقضات كبرى في لبنان، فوضى الاجتماع وصراعات الفراغ والشغور الرئاسي، وبناء الحيز السياسي واللعبة البرلمانية في ليلة قبض الرئيس نبيه برّي على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يعني امتداد الأزمة اللبنانية في حقول عدّة، مع عدم قدرة الدولة على السيطرة عليها في مقابل سيطرة أيديولوجيا حزب الله. والنتيجة إنتاج الأوضاع نفسها، وبصورة لا تقبل الفصل بين تقويض الشيء العام وانخفاض قيمة الإخلاص للمصلحة الجماعية. التحقيقات في صورتها نهاية العام تظهر كأن اللبنانيين لا يأخذون، في غالب الأحيان، الحرب حولهم على “محمل الجدّ” والفترات المخيفة جداً في المنطقة، فيتمسكون أكثر بالحياة على أمل أن يتبقى منها شيءٌ ما، يسمح لهم بإعادة ترتيب بيتهم المتهاوي.