كتب الدكتور لويس حبيقة…
الدول قوية أولا بمواطنيها عددا ونوعية من نواحي التعليم والصحة وكافة المؤشرات الانسانية والاجتماعية. عندما نتكلم عن دول بعدد مواطنيها الكبير، نفكر مباشرة بالصين والهند الدولتين العظمتين. لا يمكن لدولة أن تعتبر عظمى بعالمنا اليوم مع عدد مواطنين قليل حتى لو امتلكت أفضل التكنولوجيا وأرقى الجامعات وأحدث الطرق وأفعل المستشفيات وغيرها. الاقتصاد الصيني هو الثاني عالميا والصين هي الدولة القوية سياسيا وعسكريا وانتاجا، وأحد الأسباب المهمة هي القوة السكانية. مشكلة الصين اليوم هي تطورها السكاني العددي السلبي الذي يعتبر مقلقا للعالم من نواحي توافر السلع وتكلفتها. هنالك من يقارن الوضع الصيني اليوم بما حصل في اليابان في تسعينات القرن الماضي. الفارق الأساسي هو أن وضع الصين العام ليس بمستوى اليابان في ذلك الوقت، وبالتالي المقارنة ليست تماما في محلها. ما هو الواقع حاليا؟
أولا: بدأت أهم الشركات تنتج خارج الصين أو تنقل مصانعها الى دول أخرى ربما مجاورة كفيتنام أو بعيدة كالمكسيك بسبب التكلفة. قرب المكسيك الجغرافي من الولايات المتحدة وكندا يجعلها جاذبة جدا للاستثمارات الصناعية الصينية.
ثانيا: هنالك خوف عالمي من أن تتاثر كل الاقتصادات بالانخفاض السكاني الصيني أي التأثير المستقبلي على استهلاك السلع التكنولوجية والملابس والمجوهرات الفاخرة وغيرها. السلة الاستهلاكية الصينية مهمة اليوم لكل الدول وخاصة الغربية. السياحة الصينية أدهشت العالم مؤخرا، وهنالك اعتماد عليها لرفع مستويات النمو الاقتصادي خاصة بدأ من 2024.
ثالثا: يعتبر قطاع العقارات الصيني مهم جدا اذ يحصل على ربع الناتج المحلي. انخفاض عدد السكان سيعني انخفاض الطلب على السكن وبالتالي تأثر الاقتصاد الصيني سلبا بما يحصل سكانيا. كما أن صندوق التقاعد الصيني يمكن أن يفلس قبل 2035 بسبب تدني عدد العمالة.
ينحدر عدد سكان الصين هذه السنة، وهذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها ذلك منذ 6 عقود. عدد الولادات هذه السنة هو أدنى من عدد الوفيات وفي غياب الهجرة، ينحدر عدد السكان. هنالك خوف من أن يستمر ذلك وبالتالي يتأثر الاقتصاد العام سلبا. الصين ليست الدولة الوحيدة التي ينحدر سكانها هذه السنة. هنالك كوريا الجنوبية واليابان وغيرهما. يتحسن الدخل الفردي مؤقتا كذلك مستويا العمل والتعليم، لكن مع الوقت لا بد وأن ينعكس الانحدار السكاني سلبا على كل المؤشرات الاقتصادية.
في كوريا الجنوبية، نسبة النساء الجامعيات ارتفع من 6% في 1980 الى أعلى من 90% في 2020. ينعكس هذا التغيير الكبير ايجابا على نوعية الحياة وتربية الأولاد وسلبا على نسب الانجاب وبالتالي على عدد الولادات. ارتفع معدل العمر المرتقب العالمي من 51 سنة في 1960 الى 73 سنة في 2019. في الصين وفي الفترة نفسها ارتفع من 51 سنة الى 78 مما يشير الى الانجازات الصينية المهمة على مختلف الأصعدة. هذا التغير الديموغرافي الصيني وفي الدول التي ينحدر سكانها يفرض وجود تحديات جديدة لا بد من مواجهتها. من غير المنطقي مقاومة هذا الانحدار بل يجب تعديل بعض القوانين والسياسات لاستيعاب الموضوع وانعكاساته. من التحديات الأساسية تحسين رعاية الأطفال نوعيا وفي التكلفة. ضروري جعل التعليم متوافرا لكل المناطق والطبقات الشعبية بتكلفة مقبولة. لا بد من تأمين حد أدنى للدخل لكل المواطنين وتحقيق المساواة بين الرجال والنساء وهذا ما لم يحصل حتى في أعرق الدول الصناعية المتطورة.
بالرغم من أن عددا من الدول يعاني من نقص في عدد السكان، الا أن المواجهة الأهم هي الحاصلة بين الصين والهند. حاليا يبلغ حجم الاقتصاد الصيني 5 مرات الهندي أي 13 الف دولار للفرد الصيني سنويا مقابل 2500 دولار للفرد الهندي. يعاني الاقتصادان من مشاكل داخلية كبيرة كما في بعض العلاقات الدولية الأساسية. للهند قوة سكانية نوعية شابة كبيرة مقابل مجموعة سكانية صينية تنحدر داخلها نسبة الشباب مقابل المسنين. الهند هو البلد الديموقراطي الأكبر في العالم والخامس من حيث الحجم الاقتصادي، بعد ان تراجع البريطاني الى المركز السادس. قريبا سيصبح عدد سكان الهند أكبر من العدد الصيني وهذا لأول مرة منذ 3 قرون. مع هذا التفوق السكاني، تحصل تحديات جديدة سياسية، جغرافية، اقتصادية وثقافية تتناسب مع القنبلة السكانية الجديدة. أهم تحدي للهند هو توافر الوظائف للأجيال الجديدة اذ تحتاج الى 90 مليون وظيفة جديدة قبل 2030 للحفاظ على نسبة البطالة نفسها.
أما في الصين ونتيجة الانحدار السكاني المنتظر، من الصعب أن تحافظ على قوتها الاقتصادية وبالتالي من الممكن أن تفكر القيادات المستقبلية بتسهيل الهجرة اليها، ربما من منطقتنا حيث تنتفي عندها الحاجة الى استعمال القوارب الصغيرة والكبيرة الخطرة وغير المناسبة لترك المنطقة. سابقا حققت الصين نجاحها الاقتصادي الكبير عبر الصادرات مع بيع أفضل السلع التي يحتاج اليها العالم. مع القيود التجارية الحالية والسياسات الصناعية المتبعة أكثر فأكثر في الغرب، لا بد وأن تتأثر سلبا الانتاجية الصينية المميزة.
مشكلة الهند الأساسية هي حاجتها الى تطوير بنيتها التحتية، وهذا ما تفعله اليوم وان متأخرة مقارنة خاصة بالصين. في الهند، 1\5 من السيدات تعمل مقارنة بنسب أعلى بكثير في الصين، وبالتالي هنالك قوة انسانية هندية اقتصادية كبيرة مخبأة يمكن أن تنتج وتستهلك الكثير. نسبة وفيات الأطفال أعلى بكثير في الهند مقارنة بالصين، كما أن العمر المرتقب والمؤشرات الصحية أفضل بكثير في الصين من الهند. الطريق طويلة أمام الهند لتتفوق على الصين وغيرها، وربما ما قاله رئيس الوزراء مودي صحيح، أي حان وقت التفوق الهندي. هذا يفسر الى حد ما الاستقبال الضخم الذي حصل عليه في واشنطن في وقت تتردى خلاله العلاقات الأميركية الصينية.
المصدر: اللواء