كتب أحمد جابر…
العودة إلى النقاش الداخلي اللبناني، ليست خارج سياق الحرب المندلعة فوق أرض فلسطين، كما إنها ليست خارج المساهمة اللبنانية في هذه الحرب، التي يتصدرها حزب الله، دفاعاً وإرباكاً ودعماً، على امتداد الحدود الجنوبية للبنان.
أواني النقاش المستطرقة بين النشاط على الحدود الدولية اللبنانية، وبين التنشيط على حدود التنازع الداخلي الكثيرة، جليّة وواضحة، وقوى التنازع الداخلي ما زالت على “سلاح” افتراقها، وهي وإن عدّلَت من لهجة التخاطب، ومن طبيعة نبرته، فإنها حافظت على شحنات التوتر السياسي، وعلى نداء “الاعتصاب” الأهلي الذي يرفد التوتر بشحنات قَلَقٍ وإقلاق، إضافية. على الحدود الدولية نزاع لبناني، وعلى حدود “الدواخل” نزاع أهلي، وحبل الصُّرة الذي يربط بين هنا وهناك، هو موضوع التوازنات ما بين كتل التشكيلة الأهلية، فهذه اهتزَّت واختلّت سابقاً، وهي، وفي انتظار ما بعد الحرب الصهيونية ضد فلسطين، مرشحة للمزيد من الاهتزاز والاختلال.
الانتظارية الأهلية اللبنانية، ليست واحدة في صفاتها، لدى أطراف الانتظارية، فالواقع أن لكل طرف انتظاريته التي ينطق ببعض هواجسها على طاولته الانفرادية، ويدلي ببعضها الآخر، على طاولة محوره الذي ينتمي إليه.
يتساوى في الإعلان عن “الفكرة” في الجهر، محورا الاعتراض والممانعة، مثلما يتساويان في “التقيّة” وفي التمويه على القصد، وعندما تتعذر تسمية القوى المقصودة باسمها المتداول، يُشار إليها بكلمة “الطرف الآخر”، وهذا من قبيل التضليل، وإلقاء الآخر في دائرة “المهجولين”، أو في دائرة “قليلي” الاعتبار سياسيّاً عند احتساب ذوي القدرة والنفوذ، على صعيد أهلي.
عامل الخوف من المستقبل، أو الحذر منه والتحسّب له، أدخلته ظروف الحرب إلى نصّ كل طرف أهلي، معاينة هذا العامل، ومراقبة أداء كل طرف ضمن دائرة الخوف الوافدة إلى الحسابات، تظهر تفاوتاً في مقدار ردود الفعل الخائفة بين كل طائفة أهلية وأخرى. ظاهراً، وبما هو قريب من الواقع الفعلي، يتصرّف الفريق المقاوم بما يتجاوز مسألة الخوف، وتبرز لديه جردة الحسابات.
قليلاً ما يميل ميزان الجردة المقاوم إلى القلق المتداول لدى الفريق المعارض والمعترض، وعلى العكس من قراءات الاعتراض يحرص صاحب ميزان المواجهة على تثقيله بأوزان تفاؤلية، تلامس أحياناً جوانب من اليقينية بالخاتمة “السعيدة” التي ستنتهي إليها الأعمال الحربية، في غزّة، وعلى التماس اللبناني.
تفاؤلية المقاوم، تشكل هاجس إقلاق إضافي لدى “السيادي” الذي يتسلَّح، ربما، بتفاؤل الإرادة، لكنه يظلّ مكبّلاً بالقيود التي تفرضها حدود الإرادة، واحتمالات الأمل. يجب التنويه في هذا المضمار، بأن التفاؤل والتشاؤم، ليسا عاملين نفسيين لدى ساسة المقاومة وساسة السيادة، بل هما قراءة في معطيات محليّة وإقليمية ودولية، وهما تدقيق في تفاصيل ما هو في اليد من معلومات، وتفاصيل ما هو في السمع من “وشوشات”… لكن مصدر العاملين المشار إليهما، أو ترجيح أحدهما، هو قياس الأماني والطموحات، على مقياس القدرة وأدواتها، وعلى كيفية توظيف عوامل القوّة، وعلى إمكانية هذا التوظيف وتجسيده حركة ملموسة في ميادين الاختلاف.
ليس ضرباً تنجيمياً القول، إن التفاوت في التوازنات، موجوداً أولاً وأساساً في تفاوت القدرات العملية، وفي سبل ترجمتها عمليّاً. هنا، وفي سياق الترجمة، يتقدم الطرف المقاوم على مناوئيه السياسيين، لذلك يبدي قدْراً من الاطمئنان وهو منصرف إلى إدارة آليات اشتغاله، في الوقت الذي يخفي الآخرون، أو يظهرون، مقادير من التردّد والحيرة، وهم عاجزون عن إدارة آليات اشتغال وازنة وفاعلة في المواجهة.
وضع نقاط الدولي والإقليمي والعربي، فوق أحرف المحليّ، من قبل كل فريق داخلي، تقدّم صورة واضحة عن الممكن والمتاح لعمل طرف، مثلما تقدّم له المحتمل وغير الممكن والممتنع، سياسة وواقعاً. في هذا المجال، لو عدّد الفريق المقاوم ما يمكنه وما هو متاحٌ له، حيال السياسات الغربية عموماً بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، سيجد في حوزته ما يمكن البناء عليه، ولو استعرض ممكناته حيال السياسات الإقليمية، وفي مقدمتها السياسة الإيرانية، سيجد دعماً لا لبس فيه على كل صعيد، ولو استحضر الوضع العربي برمّته، وفي مقدمته سياسة المملكة العربية السعودية، سيجد أن طريقه مفتوح إلى اعتماد الأساسي من خياراته السياسية.
دعوة الفريق السيادي إلى ذات الاستعراض المشار إليه، لن يفضي إلى ذات النتائج التي انتهى إليها “الممانعون”، بل سيجد وضعه وسياساته وحركته العملية، في حومة سياسات غربية، وأميركية، تقول الشيء وعكسه، ولن يقع على مناصر إقليمي ذي نُصْرَة… ملموسة، ولن يتوفّر له مساند عربيٌّ يقول له “الأمر لك”، على غرار ما يقال للفريق المقاوم الذي يخاصمه.
إذن، هناك اختلال واضح في مختلف الميادين التي تصنع القدرة، وتتيح الإقدام، وهناك تفاوت بين دعم خارجي مختلف بين القريب والبعيد، وهناك وضعيات مختلفة بين وضعيات الداعمين، لجهة الوضوح، ولجهة التدخل، ولجهة استقامة وجهة سير التوجهات، بحيث لا يشوب النطق الخلط بين نَعَم ولكن، وفق ما يتردد يوميّاً في مداخلات المرجعيات السياسية الخارجية.
ما هو بيت القصيد الذي تجدر الإشارة إليه، وينبغي التوقف أمامه، ومن ثمّ التركيز على ترداده، من باب الحفر في الإرادة العمليّة الجمعيّة، هذا إن كانت هذه الأخيرة ما زالت حاضرة لدى جَمْعِ مفترض لم تنلْ منه عواصف الخلافات؟!
جواب السؤال جملة أولى، هي الإقلاع عن “العدمية” السياسية، وجملة ثانية هي مغادرة العدمية الإلغائية، وجملة ثالثة هي، مغادرة العدمية الإقصائية التبسيطية، وجملة رابعة هي التوقف عن محاولة تعديل التوازنات بالتمنيّات.
الجمل الأربع الواردة أعلاه، لها ملخص واحد هو: العودة إلى أرض الواقع لمعاينة مستجداته، والعودة إلى أصل “الميثاقية” اللبنانية لتلميع ثوابتها، والعودة إلى أصل الوفاق الاستقلالي اللبناني الذي كان موضع قبول اللبنانيين، والعودة إلى قواعد العيش المشترك، الذي ما زال العامل الأول والأهم في استمرار اجتماع اللبنانيين في لبنان، كجماعات لبنانية. العودة بفروعها تفرض على الجميع إعادة صياغة “قواعد الاشتباك” الداخلية، بالنظر إلى التغيير المرتقب في صياغة أصول قواعد الاشتباك الخارجية.
إعادة الصياغة لها ممرٌّ لا بديل منه: فتح قنوات التواصل مع الجميع، من قبل الجميع، من مدخل أساسي لا بديل منه عنوانه، لا غلبة في لبنان ولا تغلّب، ولا كَسْرٌ طائفي أو أهلي لأي طرف، ولا سماح ولا قدرة لأهليّة، لبنانية بفرض شروطها وسياساتها على الأهليات الأخرى.
لقد جرّبت المارونية السياسية ذلك ذات يوم، ففشلت سياسة هيمنتها. ولا ضرورة لأن تجرّب الشيعية هيمنة بديلة، لأن مصير التجربة إلى بَوَار. من الحكمة اللبنانية، عدم تكرار خيبة التجربة المريرة.
المصدر: المدن