كتب عمرو فاروق…
أحدثت الدراما التاريخية “الحشاشين”، المعروضة حالياً خلال شهر رمضان المبارك، بطولة الفنان كريم عبد العزيز، وإخراج بيتر ميمي، وإنتاج الشركة “المتحدة” بالقاهرة، حالةً من الحراك الفكري والمعرفي، في ظلّ البحث والتقصّى حول الفِرق والطوائف المذهبية مثل الإسماعيلية والباطنية والنزارية، التي خرجت من بين ثناياها أخطر الحركات السرّية والعسكرية في تاريخ الأمة الإسلامية.
رغم الخلاف حول السياقات التاريخية المعروضة في دراما “الحشاشين”، وما تقدّمه من رسائل سياسية، فإنّها طرحت وعياً فكرياً يُضاف بلا شك إلى مسار مواجهة المشروع التخريبي لتيارات الإسلام الحركي، واستيضاح حقيقتهم في التكالب على المنطقة العربية، وتغيير هويتها الثقافية والدينية.
تأسّست جماعة “الحشاشين” التي تعني وفقاً للمعاجم اللغوية الأوروبية “القاتل المأجور”، في ظل الحكم الفاطمي في القاهرة في القرن الخامس الهجري الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي، على يد حسن الصباح، المولود في مدينة “قم” الإيرانية، والمعروف بـ”شيخ الجيل”، نظراً لتحصّنه وأتباعه في “قلعة الموت”، والذي تحوّل من المذهب الجعفري الإثنى عشري إلى المذهب الإسماعيلي، الذي كان عليه الفاطميون في المغرب ومصر، ثم إعلان انشقاقه عن الطائفة الإسماعيلية، وتبنّى التبشير بـ”الدعوة النزارية”، نسبةً إلى نزار بن المستنصر بالله.
الإطار الفكري والمذهبي لجماعة “الحشاشين”، يمثل نقطةً محورية في تشابه البناء الحركي والتنظيمي لجماعات الإسلام السياسي، في ظل مجموعة من القواسم المشتركة والمتشابهة إلى حدّ التطابق الواقعي والعملي، مثل فرضية “البيعة” سواءً الروحية أو التنظيمية، وضرورة تبنّي مفاهيم “الولاء والبراء”، و”السمع والطاعة”، والاعتماد على “الطابع السرّي” في التغلغل بين طبقات المجتمع، لا سيما الفئات “المهمّشة”، والتوسّع في تمدّد “الهيكل التنظيمي”.
يُعتبر “الاستقطاب الفكري”، أحد الأداوت الرابطة بين طائفة “الحشاشين”، وبين جماعة “الإخوان المسلمين”، سواءً كان مشمولاً بالإطار الفردي، وفقاً لما يُعرف بأسس “الدعوة الفردية”، أو “الدعوة الخاصة”، والذي صيغت فيه عشرات الكتيبات التي تمهّد لكيفية التأثير على الأفراد فكرياً تجاه “المشروع التنظيمي”، أو وفق الإطار العام، المعروف بـ”الدعوة العامة”، والتي تستهدف تحييد الطبقات المجتمعية تجاه الفكرة المذهبية.
مداعبة الخيال كانت باباً قوياً في استمالة القواعد التنظيمية، وتخديرهم روحياً وعاطفياً، لضمان عدم خروجهم عن السياق الفكري للطائفة الباطنية، من خلال حبك الأساطير والحكايات، التي تعلي من مرتبتهم وشأنهم وفضلهم على الآخرين، فضلاً عن احتكارهم لمفاتيح “الجنة”.
الثابت تاريخياً أنّ حسن الصباح اعتمد على الطابع السرّي والتنظيمي، في بناء جماعة “الحشاشين”، مُحتمياً وأتباعه بـ”قلعة الموت”، التي تحوّلت إلى مقر للتخطيط وتنفيذ عمليات القتل والإغتيال ضدّ خصومها على يد خلاياها المسلّحة، وإدارة مجموعات التجسس والاختراق لمختلف مؤسسات الدولة العباسية وقادتها، ويتماهى معها “مكتب الإرشاد”، المقر الفعلي لإدارة شؤون جماعة “الإخوان المسلمين”، وفروعها المنتشرة في أكثر من 86 دولة حول العالم، والتي مهّدت عملياً لخروج عشرات التنظيمات التكفيرية والمسلحة، وعملت على بناء جهاز معلوماتي واستخباراتي، يمكّنها من اختراق المؤسسات الوطنية، وتمهيد وصولها إلى السلطة.
مثلما ادّعت جماعة “الحشاشين”، أنّها الفئة الوحيدة المؤمنة والمنصورة، وأنّ مخالفيها كفار لا يستحقون “الحياة”، فأسّست جناحها المسلح، الذي استباح القتل واغتيال معارضيه مذهبياً، من قبيل الحفاظ على “الدعوة” وبناء الدولة “الإسماعيلية النزارية”، فإنّ مختلف تيارات الإسلام السياسي، تبنّت النزعة الثورية، وشرعنت للتكفير وتوظيف العنف المسلح، نيلاً من أعدائها.
عرفت تيارات الإسلام السياسي،”استراتيجية المجتمعات الموازية”، و”الكيانات البديلة”، و”التجمعات المختارة”، التي صنعت الانعزالية الفكرية والنفسية للقواعد التنظيمية، من دستور جماعة “الحشاشين” الذي نسج مفاهيم الاختيار والاصطفاء الإلهي.
في إطار القضاء على مساحة الثقة بين مؤسسات الدولة (سياسييها ومفكريها وعلمائها)، وبين طبقات المجتمع، اعتمدت جماعة “الحشاشين”، على نظرية “نشر الشائعات” وحملات “التشوية”، من خلال ما يشبه الجهاز الإعلامي، سعياً إلى إسقاط النظم السياسية القائمة، في تطابق مع الاستراتيجية التي اعتمدت عليها جماعات الإسلام السياسي، في النيل من النظم السياسية الحاكمة في التاريخ المعاصر، مثلما فعلت جماعة “الإخوان المسلمين” مع الدولة المصرية على مدار السنوات العشر الماضية، عبر أبواقها الإعلامية التي بثتها من الخارج.
تكريس “القداسة” المطلقة، للأمير والزعيم الروحي، استلهمتها جماعات الإسلام السياسي، من جماعة “الحشاشين”، لصناعة هالة من الإجلال تضع المرشد أو القائد التنظيمي، في مرتبة تتماهى مع عصمة الأنبياء والرسول، أو ما يُعرف بـ”صاحب الزمان”، مثلما سوّقت جماعة “الإخوان” لما يُعرف بـ” قداسة المؤسس”، وطرحه كمجدد العصر الحديث، أو إمام الدنيا والدين، ومحاولة إضفاء صفة”الوراثة النبوية” على حسن البنا، لتقديس منطلقاته وأطروحاته وسلوكياته، وكأنّه لا ينطق عن الهوى، وتقديم الجماعة وكأنّها مشمولة بالعناية السماوية.
كانت فكرة جاهلية المجتمع وتفسيقه، والزعم بخروجه عن المسار الديني السليم، مرجعاً لجماعة “الحشاشين”، في إطار إرساء المنهج التشدّدي التكفيري، والذي تبلور في ما بعد في نظريات أبو الأعلى المودودي، وحسن البنا، وسيد قطب، وسارت على مشروعهم الفكري مختلف تيارات الإسلام السياسي، التي اتخذت منه حجة تبرير جرائمها وعنفها ضدّ المجتمعات العربية.
ركّزت جماعة “الحشاشين” في تمدّدها مجتمعياً على استمالة الطبقات الفقيرة والمعدومة، من خلال دعمهم مالياً، لصناعة ظهير شعبي، يدور في فلكهم، وفي السياق نفسه سارت مختلف جماعات الإسلام الحركي، في بناء قاعدتها الشعبية، من خلال مشاريع التكافل الاجتماعي، المغلّفة بالدوافع السياسية، مثل “الأيتام”، والأرامل”، أملاً في استقطاب صغارهم، والزجّ بهم في بوتقة التنظيمات وأهدافها غير المعلنة.
حاول عدد من المؤرخين والكتّاب، رسم طبيعة الحياة الدينية والفكرية والسياسية في قلعة “الموت”، منها رواية “سمرقند”، للأديب اللبناني، أمين معلوف، رواية “الموت” للكاتب اليوغسلافي فلاديمير بارتول، “الحشاشون… فرقة ثورية في تاريخ الإسلام”، للمستشرق اليهودي، برنارد لويس، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون، و”حركة الحشاشين… تاريخ وعقائد أخطر فرقة سرّية” للدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، ورواية “قيامة الحشاشين” للكاتب التونسي الهادي التيموني.
الرسالة التوعوية لدراما “الحشاشين”، بفضح غياهب التنظيمات الأصولية ومنطلقاتها الفكرية، وميولها الثابتة تجاه انتزاع السلطة، كفيلة بأن ينالها سهم جماعة “الإخوان المسلمين” وحلفائها، في إطار تعطيل مشروع “دراما الوعي المجتمعي”، والحفاظ على محدّدات الهوية الوطنية، الذي شرعت فيه الدولة المصرية على مدار السنوات الماضية، باعتباره يمثل تهديداً لمستقبل الجماعة الفكري والسياسي والتنظيمي.
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الأصولية
المصدر: النهار العربي