كتب عماد الدين أديب
يخطئ من يعتقد أنّ الهدنة الحالية هي خطوة نحو إيقاف نهائي لإطلاق النار بناء على تفاهم محلي وإقليمي ودولي على خارطة طريق التسوية السياسية.
المؤكّد عندي، وأتحمّل مسؤوليّته، هو الآتي:
1- نحن أمام هدنة يسبقها وعد باستئناف إطلاق النار.
2- أو مدّ لهدنة ثانية أو هدن أخرى سوف يعقبها استئناف العمليات الحربية.
3- في جميع الأحوال فإنّ وتيرة ومنسوب وقوة النيران وحجم التدمير وخسائر الطرفين ستكون أعظم وأكبر في الجولات التالية.
يقول خبير أمني عربي عمل لسنوات في الوساطة بين حماس وإسرائيل: “الحرب الحقيقية، على الرغم من كلّ خسائر الجولة الأولى، لم تبدأ بعد”.
“العمليات العسكرية الحاسمة والمؤلمة هي في المرحلة والمراحل المقبلة”، يضيف الخبير. وتؤكّد المصادر: “نحن أمام عمليات عسكرية قد تستمرّ ما بين 7 إلى 8 أسابيع بعد هذه الهدنة”.
نصير أمام السؤال التالي: ما الذي يحسم استمرار الهدن أو استمرار العمليات العسكرية؟ ما هو العنصر المرجّح؟ بمعنى قتال أم تفاوض.
مصادر تتواصل مع إسرائيل
تؤكّد المعلومات الواردة عن مصادرغربية تتواصل مع إسرائيل على الآتي:
1- نتانياهو لا يستطيع الآن إيقاف الحرب لأنّ ذلك يعني التعجيل بنهايته السياسية.
2- نتانياهو لا يستطيع الآن أيضاً إيقاف التفاوض على إطلاق سراح الرهائن.
3- نتانياهو أيضاً لا يستطيع، بسبب ابتزاز اليمين الديني له، إنهاء “عمليات الترانسفير” للشعب الفلسطيني من الشمال إلى الجنوب ومنع العودة، حتى في الهدنة، من الجنوب إلى الشمال.
4- نتانياهو أيضاً وأيضاً لا يستطيع التخلّص من إلحاح بايدن وزعماء أوروبا الذين يضغطون عليه ليسرّع إنهاء العمليات العسكرية، بسبب تحوّل الرأي العام المحلّي في دولهم من داعم لإسرائيل إلى معادٍ لها، وتعالي الأصوات في أوروبا التي تتّهم هذه الزعامات بالتواطؤ مع العدوان الإجرامي.
5- نتانياهو لا يضمن استمرار التزام الحزب بقواعد الاشتباك ولا يضمن عدم انزلاق جبهة جنوب لبنان إلى توسيع نطاق الحرب، وهو ما يضمنه التفاهم بين إيران وواشنطن حتى الآن.
هذه العناصر المتناقضة المتضاربة لا يمكن الجمع بينها، ولا بدّ من أن يقع الخيار المؤلم على أحد عناصرها دون سواه، ودفع فاتورته حتى النهاية، والتضحية بعدم اعتماد الخيارات الأخرى.
شيء واحد يجمع كلّ هذه الخيارات الصعبة عند نتانياهو وعند الجيش وعند الشاباك وعند اليمين التوراتي الإسرائيلي وعند جنون وهوس المستوطنين، وهو استمرار القتال، أو بالأصحّ استمرار القتل.
إذاً كيف سيكون سير العمليات المقبلة؟
يمكن القول إنّ الجولة الأولى من القتال من 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى 25 تشرين الثاني، انتهت بأربع نتائج حالية:
1- هزّت كتائب عزّ الدين القسام نظرية “الأسد الإسرائيلي” يوم 7 أكتوبر، أي ليوم واحد. لكنّ الرسالة كانت شديدة الإيلام.
2- قام الجيش الإسرائيلي بأكبر حجم من التدمير في العصر الحديث: تدمير مبانٍ هو أقوى من التدمير الذي شهدته مدينة ليننغراد على يد الألمان في الحرب العالمية الثانية، وأبشع من معارك باخموت على يد القوات الروسية التي غزت أوكرانيا، وأكبر عدد من الجرحى والنازحين في التاريخ مقابل كلّ كيلومتر واحد.
3- على الرغم ممّا سبق لم يتمّ كسر قدرة الآلة العسكرية للقسّام والجهاد الإسلامي.
4- اضطرّت إسرائيل مكرهة إلى التفاوض مع القسّام عبر حماس بوساطة مخابرات أميركا ومصر وقطر.
الألم الإسرائيليّ من “عدم الانتصار”
مرارة عدم الانتصار تؤلم الطرف الإسرائيلي. بينما مرارة التدمير والتهجير والثمن الذي دفعه سكّان غزّة مقابل عملية القسّام تؤلم حماس.
هذه الجولة لا يوجد “غالب” واضح فيها، لكن يوجد طرف يرفض أن ينهزم مقابل طرف يشعر بجرح عظيم منذ يوم 7 أكتوبر.
من هنا يمكن القول إنّ كلّ طرف الآن يستفيد من الهدنة على الشكل الآتي:
1- إسرائيل سوف تعيد تموضع قواتها في شمال وجنوب غزة.
2- تقديم لقيادة الأركان تقدير موقف فيه تقويم للإجابة على سؤال: لماذا لم ننجح في كسر حماس من الجولة الأولى؟
3- التوصية باتّباع أساليب وتكتيكات مختلفة عمّا تمّ اتّباعه في الجولة الأولى من قبل الطرف الإسرائيلي.
4- بعدما أنهت إسرائيل مراحل الاختراق ثمّ التمركز، وبدأت مرحلة “التطهير”، فإنّها سوف تعيد تقسيم تكتيكات القتال في عملية التطهير.
معركة “كسر العظام” آتية
السؤال العظيم الأعظم الذى يتمّ الشدّ والجذب فيه بين رئاسة الحكومة الإسرائيلية ورئاسة الأركان هو التالي: هل الهدف النهائي لهذه المرحلة كسر آلة حماس العسكرية فحسب؟ أم التهجير القسري للفلسطينيين من الجنوب أيضاً بهدف إعادة احتلال الـ360 كلم (إجمالي مساحة قطاع غزة)؟
المؤكّد عسكرياً هو الآتي:
1- سوف تدور معارك ضارية قد تصل إلى حالات الاشتباك الدموي الفردي فى مساحة لا تزيد عن مربّع من 15 إلى 20 كلم2 من مساحة مدينة غزة، وقد تسجّل على أنّها مجازر كبرى في تاريخ الحرب الحديثة.
2- سوف يؤدّي هذا الجنون العسكري الإسرائيلي إلى زيادة ضغط الرأي العام العالمي الذي بيّنت استطلاعات الرأي يوم 10 تشرين الأول الماضي أنّه مؤيّد لـ”حقّ إسرائيل فى الدفاع عن نفسها”، وانتهت إلى إظهار رفض العينة نفسها منه بعد 6 أسابيع من هذه العمليات بنسبة وصلت إلى 92%.
يمكن رصد مواقف رئيسَيْ وزراء إسبانيا وبلجكيا اللذين أكّدا تأييدهما لرفض عمليات إسرائيل ودعم قيام دولة فلسطينية حتى لو خالف ذلك القرار الرسمي لدول الاتحاد الأوروبي.
أمّا بالنسبة لحماس (قيادة قطر) فإنّها مرتهنة برؤية طهران لقواعد الاشتباك الإقليمي.
بالنسبة لقيادات “القسام” فإنّها تعيد تقويم تكتيكاتها القتالية وإعادة تموضع قياداتها الميدانية وتدعيم شبكات الإعداد والتموين والأدوية والطاقة لأنّها تدرك أنّ الجولة المقبلة هي مرحلة ستسعى إسرائيل إلى كسر العظام خلالها.
تزايد عمليّات الاغتيال في لبنان
العمليات العسكرية الإسرائيلية الآتية لن تقتصر على جبهة غزة لكن:
1- سوف تتصاعد العمليات العسكرية ضدّ مدن الضفة والمخيّمات الفلسطينية هناك، سواء بالاشتباك أو الاعتقال أو الاغتيالات.
2- سوف يستمرّ دعم جيش الاحتلال لعمليات المستوطنين الإجرامية ضدّ مزارعي وسكان الضفة بهدف تصفيتهم أو ترحيلهم أو منعهم من مزاولة أعمالهم في الزراعة أو التجارة.
3- سوف تزداد وتيرة قيام فرق الاغتيالات الإسرائيلية باستهداف أهمّ عناصر الحزب على الحدود الجنوبية للبنان، وبالذات في قوات الرضوان، وستكثّف النشاط الاستخباري وتجنيد العملاء من أجل زياده وتيرة عمليات التصفية.
خيارات حماس المؤلمة
في هذا الوقت، ما زالت “القسام” تراوح التفكير في مستقبلها ككيان خاصة، وتجد أنّ أمامها 3 احتمالات:
1- الاحتمال الأفضل لها هو قبول إسرائيلي بالأمر الواقع بمعنى استمرار وجودها في غزة، وهذا الاحتمال ضعيف للغاية بسبب أنّ مقياس فوز إسرائيل هو إضعاف أيّ تأثير عسكري أو سياسي لحماس وتسليم القطاع لسلطة معتدلة.
2- الاحتمال السيّئ هو استمرار جولات الكرّ والفرّ في العمليات العسكرية بحيث يستمرّ التعامل مع غزة على أنّها مسرح عمليات مستمرّ.
هذا الاحتمال مكلف للغاية للطرفين الإسرائيلي و”الحمساوي” على حدّ سواء.
3- الاحتمال الأسوأ هو كسر قوة النخبة في قيادة “القسام”، والتوصّل إلى اتفاق لتبادل الرهائن مقابل ترحيل قياداتها إلى عمّان أو بيروت بصيغة مماثلة لصيغة خروج أبي عمّار ورفاقه من بيروت إلى تونس.
في الخلاصة فإنّ مثلّث حماس – نتانياهو – السلطة الفلسطينية لن يأتي إلا بهذه النتيجة!
باختصار علينا أن نستعدّ، باعتبار أنّنا أمام مفاوضات خلفيّة بين كلّ الأطراف برعاية أميركية ووساطة قطرية مصرية لا يُستبعد استمزاج آراء طهران وأنقرة والاتحاد الأوروبي فيها، لكنّها ستؤدّي في أقصى حالاتها إلى “تهدئة”، لكن بدون أفق سياسي ولا تسوية نهائية.
علينا أيضاً أن ندرك أنّه على الرغم من كلّ ما حدث من خسائر ومجازر ودماء ودمار وتكاليف عامّة، فإنّ جنون اليمين الديني من الطرفين لم تبرد وتيرته حتى الآن، لأنّها حروب أصحاب العقل الديني.
الحرب الحقيقية لم تبدأ، لكنّها آتية لا ريب في ذلك.