كتب عماد عنان في نون بوست
بين أوجاع الفقد المتناثرة ورائحة الدمار التي أزكمت الأنوف ومرارة التهجير التي أدمت الحلق، عاش الفلسطينيون ليلة مفعمة بالفرحة، امتزجت فيها دموع التحرير بزهوة الانتصار، وتراقصت سعادتهم على أسلاك الحزن الشائكة.
من جنين ونابلس إلى بيت لحم والقدس، عاش الفلسطينيون ليلة ليست ككل الليالي، فرحًا بتحرير 39 من الأسرى النساء والأطفال من سجون الاحتلال، كدفعة أولى ضمن اتفاق الهدنة المبرم بين حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وحكومة الاحتلال والقاضي بإطلاق سراح 50 من النساء والأطفال الإسرائيليين في قطاع غزة مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين من سجون الاحتلال، مع إدخال مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية والوقود إلى كل مناطق القطاع، خلال هدنة مدتها 4 أيام، بدأت صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وقابلة للتمديد.
احتفالات على أنغام الوجع
رغم حرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال ضد القطاع وخلفت وراءها حتى 25 نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ 14 ألفًا و854 شهيدًا فلسطينيًا، بينهم 6 آلاف و150 طفلًا، وما يزيد على 4 آلاف امرأة، فيما تجاوز عدد المصابين 36 ألفًا، بينهم أكثر من 75% أطفال ونساء، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إلا أن ذلك لم يمنع الفلسطينيين من الاحتفال بأسراهم المحررين من سجون الاحتلال.
عناق يكاد أن يكسر الضلوع، هتافات تزلزل الحجر والشجر، صرخات فرحة تفوق أصوات طائرات الاحتلال الحربية، أطفال يحملون على الأكتاف، حاملين أعلام فلسطين والمقاومة، تجمعات شبابية ونسائية تجوب الشوارع، واحتفالات تنصب أمام البيوت وفي الطرقات رغم أنف الاحتلال.
المشهد منذ الوهلة الأولى لا يتناسب مطلقًا مع حجم الدمار الذي حل بهذا الشعب، فالأنفس التي تجرعت آلام الفقد والحرمان والتهجير طيلة الـ50 يومًا الماضية، في ظل ما يتعرضون له من حرب إبادة وإجرام ما عرفه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يمكن للعقل أن يستوعب أن تكون تلك أجواءهم الاحتفالية بتحرير أسراهم من النساء والأطفال.
لكن ومع ذلك لم يفت الفلسطينيون فرصة الاحتفاء بنصر التحرير، وإخضاع العدو لشروط وإملاءات المقاومة، احتفاء يأتي هذه المرة بأيدي مقاتليهم، ممن أجبروا المحتل وأعوانه والمتخاذلين من الأشقاء هنا وهناك على الرضوخ للمعادلة الجديدة التي فرضها الشعب الفلسطيني بفضل مقاومته الباسلة.
ويعلم المحتل أهمية وقيمة تلك الاحتفالات وما تحمله من رمزية وما تبثه في نفوس الفلسطينيين من إصرار على المقاومة وشحن لبطاريات الصمود والتحدي، لذا حاول بكل السبل منعها والحيلولة منها، عبر التهديد والتنكيل والاستهداف، لكنه في النهاية فشل في تحقيق مآربه كما فشل في تحقيق أهدافه من الحرب رغم مرور 50 يومًا عليها.
تجديد العهد ودعم المقاومة
بينما كان الاحتلال يؤمل نفسه بأن تسفر أعداد الضحايا في صفوف الفلسطينيين عن ضغط شعبي على المقاومة وتحميلها مسؤولية ما وصلت إليه الأحداث – وهو الخطاب ذاته الذي يتبناه بعض العرب – إذ بالسحر ينقلب على الساحر، وتتحول الحرب بعد أكثر من شهر ونصف إلى ساحة جديدة لتجديد مبايعة الفلسطينيين للمقاومة ودعمهم لها بشكل كامل.
وتبنى الأسرى المحررون وعوائلهم خطابًا احتفاليًا واحدًا، يرتكز على ثنائية لا ثالث لها، الأولى حجم التنكيل والإجرام والانتهاكات التي تعرضوا لها داخل سجون الاحتلال، والثانية توجيه الشكر والتحية للمقاومة التي أجبرت الكيان المحتل على إطلاق سراحهم.
ففي تصريحات تليفزيونية لها أعربت الأسيرة المحررة حنان البرغوثي أم عناد، (هي أم لأربعة أولاد أسرى في سجون الاحتلال وشقيقة نائل البرغوثي أقدم الأسرى الفلسطينيين) عن معاناة أبنائها وشقيقها في الأسر، موجهة التحية للمقاومة، قائلة: “لولا المقاومة ما رأينا الحرية”، كذلك زوجة الأسير نائل البرغوثي، إيمان نافع، التي ثمنت دور المقاومة البطولية في تحرير الأسيرات، معربة عن تمنياتها بتحرير زوجها خلال الدفعات المتبقية.
وتحول الاحتفال بالمحررات إلى ساحة كبيرة لتجديد العهد والدعم للمقاومة، حيث رددت الحشود هتافات تحيي غزة وأهلها وقادة المقاومة، وعلى رأسهم رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، حيث قال بعضهم: “روّحت الحرة على الدار، يديم عزك يا سنوار”، كذلك قائد كتائب القسام محمد الضيف كما هتفت الأسيرة المحررة روضة أبو عجمية لدى وصولها إلى مخيم الدهيشة في بيت لحم.
الاحتفاء.. الرمزية والرسائل
تفاصيل المشهد الاحتفالي بالأمس بتحرير الأسيرات والأسرى من النساء والأطفال، والهتافات التي ترددت، وحجم ومستوى وطبيعة الاحتفالات التي أقيمت، وفحوى ومضمون التصريحات الصادرة عن المحررين من سجون الاحتلال، كلها تحتوي على رمزيات ورسائل عدة.
أولًا: الرمزية
الصورة التي كان عليها الوضع بالأمس أكدت أن هذا الشعب لا يمكن كسره، فرغم كل كؤوس الألم التي تجرعها على مدار 50 يومًا من الحرب القاسية، قتل وإصابات وتهجير وتدمير، فإن ذلك لا يمكن أن يُنسيه قضيته، وأن يثنيه عن الاحتفاء بتحرير أسراه، لما لذلك من دلالة ومعنى كبيرين، فكل جحافل جيوش العالم وكل أسلحة دماره ومدارس التدمير والتنكيل لن تُنسي الفلسطينيين قضيتهم وهمهم الأول والأخير.
ثانيًا: الرسائل
– دعم المقاومة في غزة وخارجها.. رغم محاولات الشيطنة المستمرة منذ عملية “طوفان الأقصى”، فالاحتفالات التي جرت بالأمس كانت في مناطق غير خاضعة بشكل مباشر لسلطة الحركة، ومع ذلك جاءت التصريحات كلها داعمة للمقاومة، ومؤيدة لنشاطها، ومثمنة للدور الذي تقوم به، وتحول الأمر إلى ما يشبه الاستفتاء على الفصائل في كامل ربوع فلسطين.
وتتضمن تلك الرسالة التأكيد على مواصلة مقاومة الاحتلال بشتى السبل، مع احتمالية اتساع نطاق المواجهات ليتجاوز القطاع إلى غيره من بقية المناطق الفلسطينية، خاصة بعدما فقدت السلطة بقيادة أبو مازن السيطرة بشكل كامل على المزاج الشعبي الفلسطيني في رام الله وغيرها.
– سيطرة حماس على المشهد.. توهم المحتل وردد عبر آلته الإعلامية في الداخل والخارج أن حماس فقدت السيطرة على عناصرها ومناطق نفوذها، وأن ما ينفذ من عمليات استهداف يتم بشكل فردي وعشوائي بعيدًا عن إدارة الحركة وسلطتها، غير أن المشهد بالأمس بكل تفاصيله أجهض هذا الوهم وحوله إلى كابوس.
مراسل القناة 12 العبرية للشؤون الفلسطينية في تعليقه على ما جرى الجمعة، أول أيام الهدنة، قال إن حماس أثبتت أنها ما زالت قوية، حيث نجحت كتائب القسام في فرض إرادتها على الجميع التزامًا بالهدنة، فلم يحدث خرقًا واحدًا بإطلاق النار في أي من المناطق.
كما أن عملية الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين تمت بيسر ومرونة، كأي عملية عسكرية يقومون بها دون أي ارتباك أو فوضى، بداية من إخراجهم من أماكن الاحتجاز في القطاع حتى وصلوا إلى المستشفى في خان يونس ومنها إلى رفح ثم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة لدى الكيان الغاصب.
وأضاف المحلل في القناة العبرية “من تعجّل في نعي حماس عليه النظر إلى هذا اليوم (أمس الجمعة) ليفهم أن هذا ليس هو الواقع”، وتابع “حماس ما زالت قوية على الرغم من العملية الهائلة في القطاع، والحركة تسيطر وتدير الأمور على المستوى القيادي والإداري”.
وهكذا أجهض الفلسطينيون باحتفائهم بالمحررات والمحررين مخطط بن غفير وحكومته الرامي إلى وأد فرحة الانتصار، والحيلولة دون تصدير تلك الصورة المبهرة التي تحمل رسائل الشعب الفلسطيني للداخل والخارج بأنهم صامدون ومقاومون ولن تُكسر شوكتهم مهما كان حجم الإجرام والتنكيل، وهي الصورة التي تزيد من مشاعر الحسرة والصدمة لدى الطرف الآخر، الاحتلال وأعوانه والمتمسحين على نعاله.