سامر زريق نقلاً عن “إيلاف”
شهدت الأيام القليلة الماضية تسارعاً محموماً على ضفة الصراع في أوكرانيا، أوحى بأن العالم يتجه نحو توسيع إطار الحرب ومسالكها نحو مديات خطيرة، خصوصاً على القارة الأوروبية.
تعديل العقيدة النووية
بعد طول انتظار وإلحاح مستمر، وافقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مع اقتراب ولايته من النهاية، على منح كييف الإذن باستخدام صواريخ “أتاكمز” الباليستية البعيدة المدى، والتي يصل مداها لغاية 300 كيلومتر، لقصف عمق الأراضي الروسية. وسريعاً قامت القوات الأوكرانية باستهداف منطقة بريانسك الحدودية بهذه الصواريخ. الأمر الذي اعتبرته الإدارة الروسية تجاوزاً للخطوط الحمر، وهي التي لطالما حذرت على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، وعبر تصريحات قادتها السياسيين والعسكريين من هذه الخطوة، وأنها لن تبقى مكتوفة الأيدي وسترد بحزم شديد عليها.
وتأكيداً على جدية موسكو وعدم تهاونها إزاء ما تعده تهديداً خطيراً لأمنها القومي، أصدر الرئيس الروسي، في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، مرسوماً وافق فيه على تطوير العقيدة النووية، وتوسيع الحالات التي تبيح استخدام السلاح النووي، لتشتمل على “استهداف الأراضي الروسية بصواريخ تقليدية من قبل دول مدعومة بتحالف مع قوة نووية”، بما في ذلك الصواريخ الباليستية الأميركية، وتلك أيضاً التي تزود بها كييف قوى غربية أخرى مثل بريطانيا. وتظهر الوثيقة الخاصة بالمرسوم، التي نشرها موقع “سبوتنيك” الروسي، أنه “يمكن لروسيا استخدام الأسلحة النووية في حالة وجود تهديد خطر للسيادة وسلامة الأراضي لها ولبيلاروسيا”.
صاروخ روسي سياسي – نووي
إذا كانت بعض العواصم الغربية اعتبرت تعديل العقيدة النووية الروسية بمثابة “رد كلامي”، فإن موسكو لم تكتفِ بهذا الحد، بل أكدت جديتها الكاملة في الرد، وذلك من خلال الصاروخ الباليستي الجديد “أوريشنيك”، الذي استهدف مجمعاً صناعياً – عسكرياً أوكرانياً في مدينة دنيبرو، جنوب شرق أوكرانيا، فاستحال رماداً.
تبع ذلك تحذير من بوتين، في خطاب له في 21 تشرين الثاني (نوفمبر)، من أنَّ بلاده “يمكن أن تستخدم صواريخها الجديدة ضد الدول التي تسمح لأوكرانيا بإطلاق صواريخها على روسيا”، قاصداً بذلك الدول المجاورة لها بشكل رئيسي.
وصاروخ “أوريشنيك” هو واحد من الأسلحة المتطورة التي تمتلكها روسيا ضمن ترسانتها العسكرية، والتي لا يملك الغرب معلومات دقيقة عنها. ويتميز “أوريشنيك” بسرعة هائلة مع القدرة على تغيير مساره وارتفاعه، ويستغرق وصوله إلى الهدف دقائق معدودة، ولذلك ثمة استحالة في اعتراضه من قبل أنظمة الدفاع الصاروخي الحديثة لدى أميركا وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
علاوة على ذلك، أكد بوتين في خطابه نفسه أن “أوريشنيك” هذه المرة كان داخله “رؤوساً تقليدية”، في تلميح إلى أنه قادر على حمل رؤوس نووية في المرات المقبلة، حسب قسطنطين سيفكوف، نائب رئيس أكاديمية العلوم الصاروخية والمدفعية الروسية، والذي رأى في تصريحات للصحافة الروسية أن الكشف عن هذا الصاروخ وقدراته “رسالة عسكرية وسياسية للدول غير الصديقة”.
عرقلة مسار التعاون المرتقب
حسب تقارير غربية، فإنَّ قرار إدارة بايدن بالسماح لكييف ضرب العمق الروسي عبر الصواريخ الباليستية لن يكون ذا جدوى عسكرية أو ميدانية، إنما هو قرار سياسي الطابع، يرمي إلى وضع العراقيل أمام إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، لا سيما أنه أكد غير مرة خلال حملته الانتخابية عزمه إنهاء الصراع في أوكرانيا، بالتنسيق مع الإدارة الروسية.
هذا ويعتزم ترامب، حسب المعلومات المتداولة في الصحافة الأميركية، تعيين ريتشارد غرينيل، مدير المخابرات الوطنية الأميركية الأسبق، مبعوثاً خاصاً للصراع في أوكرانيا، في تعبير عن مدى جديته في تطبيق تعهداته فور تنصيبه. وتحظى الشخصية التي اختارها ترامب لشغل منصب مستحدث أهمية خاصة، انطلاقاً من الدور الذي لعبه خلال مفاوضات السلام بين صربيا وكوسوفو، وكذلك بسبب مواقفه من الصراع في أوكرانيا، وميله إلى تبني المشروع الروسي للسلام، ورفضه انضمام كييف إلى “الناتو”، أسوة بأغلب الشخصيات التي انتقاها الرئيس الأميركي ضمن إدارته الجديدة.
وعليه، فإنَّ الرد الروسي الحازم والسريع بتعديل العقيدة النووية وإطلاق صاروخ “أوريشنيك” الباليستي، يعد خطوة سياسية ذكية من قبل موسكو، كونه يسهم في ردع إدارة بايدن والعواصم الأوروبية وإرباكها، والحؤول دون قدرتها على عرقلة عملية السلام في أوكرانيا. إلى ذلك، ثمة الكثير من القلق الذي يعتري القوى الأوروبية البارزة من مسار التعاون المرتقب بين ترامب وبوتين، والذي يتجاوز تقويضها جهود إنهاء الحرب في أوكرانيا، ليبلغ حد تراجع مساحة نفوذها وتأثيرها في صناعة القرار العالمي في الحقبة المقبلة، ولا سيما بعد تجربتها المريرة معه خلال ولايته الرئاسية الأولى.
تعتقد هذه العواصم أن الرئيس الأميركي المنتخب سيدعم نظيره الروسي على حسابها، بهدف تشديد الضغط السياسي عليها، واستنزاف قدراتها الاقتصادية والمالية. ولذلك زادت وتيرة الاجتماعات الأوروبية المشتركة، وراحت بعض العواصم تلوح أيضاً بالسماح لكييف باستخدام الصواريخ الباليستية والأسلحة النوعية التي سبق أن زودتها بها، من أجل القول لترامب “ها نحن هنا”، والحؤول دون خروجها من المعادلة السياسية وتوازناتها الجديدة، والتي يبدو أنها ستكون مختلفة تماماً.