تحت مسمى «معركة ردع العدوان» فتحت فصائل معارضة سورية، أمس الخميس، جبهة محور عمليات جديد شرقي محافظة إدلب في شمال البلاد، وذلك بعد أن فاجأت النظام وميليشيات مساندة له، خلال اليومين الماضيين، بهجوم ناجح غربي محافظة حلب.
ردّت القوات الروسية الحليفة للنظام بغارات على ريفي حلب وإدلب، كما قامت، مع قوات النظام، بقصف مدفعي وصاروخي، وأدى الهجومان الى استيلاء فصائل المعارضة على عشرات القرى والبلدات، والاقتراب من مدينتي حلب، التي استرجعها النظام عام 2016، وسراقب التي خسرتها المعارضة عام 2019، فيما أكدت مصادر معارضة تمكنها من قطع الطريقين الدوليين الواصلين بين دمشق وحلب واللاذقية.
يسجّل ما حصل تطوّرا مهما على الأحداث التي بدأت عام 2011 بقمع نظام بشار الأسد للمظاهرات السلمية مما أدى إلى انشقاقات داخل الجيش وظهور فصائل مسلّحة وتدخلات إقليمية ودولية كبيرة وحروب أوقعت أكثر من نصف مليون قتيل، وانقسمت البلاد خلالها إلى أربعة أقسام مختلفة تشتبك فيها وتتقاطع قوى أمريكا وروسيا وإيران وتركيا (مع بروز دور جديد لإسرائيل مع دخولها على الحدود الجنوبية مؤخرا).
تسيطر قوات النظام وحليفتاها روسيا وإيران على ثلثي البلاد، فيما تسيطر قوات يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني التركي على ربع البلاد، وتدعمها قوات أمريكية، كما تسيطر قوات موالية لتركيا على شريط حدودي ومنطقة حدودية منفصلة، فيما تسيطر «هيئة تحرير الشام» وهي منظمة سلفية مسلحة، على نحو نصف محافظة إدلب وأجزاء من محافظات حلب وحماه واللاذقية، وهناك هوامش تنشط أحيانا لتنظيم «الدولة الإسلامية» في البادية السورية.
يمثّل هجوم الفصائل الأخير أول تغيير يحدث على موازين القوى في شمال البلاد، تحاول فيه استعادة حدود ما يسمى بـ«منطقة خفض التصعيد» التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019، والتي تعدّلت بعد هجمات لروسيا والنظام، بمشاركة من «حزب الله» وميليشيات مدعومة من إيران، عام 2020، وهو ما اعتبرته تركيا انتهاكا للاتفاق.
يمكن اعتبار الهجوم الأخير، ضمن هذا السياق، عملية لتحريك المفاوضات حول ذلك الخلاف، ويجيء بعد مبادرات قام بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لتسوية مع النظام السوري، الذي رفض المبادرة، وكذلك فعل حليفاه الروسي والإيراني، كما يأتي بعد اتفاق الهدنة بين إسرائيل و«حزب الله» المشغول حاليا بإعادة تنظيم نفسه، مع بروز أولوية ترتيب أوراقه العسكرية والسياسية داخل لبنان، الذي تعيد فيه القوى السياسية تموضعها بناء على المستجدات، ولانتخاب رئيس جديد.
تجري تحرّكات المعارضة السورية في اتجاه يبدو مناسبا لتركيا، وهي تحرّكات تأخذ في الاعتبار أيضا التوتر الملحوظ بين إيران، و«حزب الله» من جهة، والنظام السوري، من جهة أخرى، كما تأخذ في الاعتبار التراجع الملموس في القوتين الروسية، بسبب حرب أوكرانيا، والإيرانية، بسبب الصراع الطويل مع أمريكا وأوروبا كما بسبب النزاعات المشتعلة في المنطقة، والأغلب أن هذه التحرّكات تدخل في حسبانها الاحتمالات العديدة التي يحملها مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة أمريكا مجددا.
تمثّل هذه المحاولة الجديدة لتعديل خرائط النفوذ تفصيلا في المشهد التراجيدي السوري الذي يمثّل درسا سياسيا هائلا لنتائج قرار نظام اعتبر البلاد ملكا عائليا، ورفض أي شكل من أشكال التغيير، ذاهبا في قمعه لشعبه مذاهب التوحّش الأقصى، وصولا إلى استخدام السلاح الكيميائي، ومفضّلا التبعيّة الخارجية على التنازل لسكان سوريا، مما فتح البلاد أمام التدخّلات الخارجية، وصعود التيارات الطائفية المسلّحة فتحوّل من دولة فاقدة للسيادة إلى عصابة متورّطة في القتل الجماعي يقوم اقتصادها على صنع المخدرات وتهريبها وبيع أصول البلاد والعباد.
قد يكون الهجوم، بغض النظر عن سياقه، بادرة لفك الحلقة المغلقة وفتح آفاق تسوية، وإعادة تنبيه العالم إلى «الثقب الأسود» السوري، والذي ساهم، بالتأكيد، في دخول العرب هذه المرحلة المظلمة التي تبدو فيها إسرائيل القوة الناشئة العظمى في المنطقة.
المصدر: القدس العربي