كتب مازن خطاب في “اللواء”:
اندلع الصراع بين إيران و«إسرائيل» بالوكالة، أو ما يعرف بـ «حرب الظلّ»، إثر قيام ثورة الخميني الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩. واليوم تستكمل القيادة الإيرانية «كفاحها» ضد التوسّع الصهيوني في المنطقة في حين تستميت «إسرائيل» في منع إيران من إنتاج أسلحة نووية، وتعمل على إضعاف حلفائها وأتباعها في المنطقة. وقد قال المرشد الإيراني علي خامنئي في احدى كلماته إثر العدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين أنّ «الجهاد المستمر بقوة في لبنان وغزة سيؤدي لانتصار جبهة المقاومة وجبهة الحق»، وهو يدفع هذين البلدين وشعبيهما نحو مستقبل مجهول. وإذا كان خامنئي مؤمناً بضرورة الجهاد، وهو الذي يواصل الحديث أمام الطلاب الإيرانيين عن «الواجب الإسلامي» و«التكليف بالحرب»، فلماذا لا يدخُل في حرب جهاديّة كُبرى مباشرة مع «إسرائيل»؟
بداية، يجب الالتفات الى الدستور الإيراني الذي أعدّ في تمهيده تحت عنوان «أسلوب الحكم في الإسلام» مبدأ «تصدير الثورة» إلى كل بقاع الأرض، والذي يشكّل رخصة سياسية ألبسها المشرّع الإيراني ثوباً دينياً وإنسانياً ودستورياً، تسمح لإيران بزعزعة استقرار بعض الدول «المستكبرة» المناوئة لها، وخلق أنظمة حكم موالية لها وفق رؤية مذهبية شيعية تضمن لها السيادة على مقدرات هذه الدول بغض النظر عن القيود الحدودية المصطنعة. وقد وضعت إيران آلية لمأسسة فكرة تصدير الثورة من خلال نص الدستور الإيراني على أن تكون إحدى مهام «الحرس الثوري» – المؤسسة الثورية التي توازى الجيش النظامي داخل إيران – القتال بغرض توسيع حكم الشريعة الإسلامية في العالم. وهكذا نخلص الى ان إيران تحارب «إسرائيل» من خلال وكلائها في المنطقة بموجب دستورها.
ووفق ورقة بحثية نشرها «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» في هذا العام، لا يمتلك أي من الجيشين الإيراني والإسرائيلي قدرات عسكرية كافية لخوض صراع مستمر ومباشر مع الآخر، فيما يشير موقع «Global Firepower» ان إيران تحتل الموقع الرابع عشر لعام ٢٠٢٤ فيما تأتي «إسرائيل» في المركز السابع عشر. ومع ذلك، فإن الجيش الإيراني النظامي لم يُختبر في حروب مباشرة إلّا مرة واحدة في حربه الطويلة مع العراق. في المقابل لدى «إسرائيل» تجارب عديدة في مجال الحروب، فجيشها خاض حروباً في أعوام ١٩٦٧ و١٩٧٣ وصولاً إلى اجتياح لبنان عام ١٩٨٢ ثم الحرب مع «حزب لله» في تموز ٢٠٠٦، وتجارب عسكرية عديدة في قطاع غزة، والآن يخوض حربين بالتزامن في قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهو يتمتع بخبرات كبيرة وبتمويل ضخم وبتسليح نوعي وبدعم دولي.
ومن المعلوم أن إيران تعاني حالياً نقصاً في الوقود والكهرباء والغاز؛ فإذا قامت إيران باستهداف البنية التحتية الإسرائيلية الحيويّة، قد تردّ «إسرائيل» بالمثل وربّما تستهدف مصافي النفط ومحطات الطاقة الإيرانية، ولا يمكن معرفة أين ستنتهي هذه الحرب وكم سيكون ثمنها، وحينها ستتعرض حياة الإيرانيين لمزيد من الاضطراب والتدهور. كما أنّ إيران توقن أنّ أي صراع مع «إسرائيل» هو صراع مع القوى الدوليّة وأولها الولايات المتحدة الأميركية، وهي تعي أنها قوة إقليميّة لكنها لا تملك الأدوات والمقوّمات لتكون قوة دوليّة. في الوقت نفسه، لا تستطيع «إسرائيل» تحمّل فتح جبهة كبيرة مع إيران في الوقت الذي تواصل فيه حملتها العسكرية على غزة ولبنان، لا سيّما إذا حشدت طهران قدرتها الحربيّة بالوكالة بشكل الكامل.
لذلك كلّه، تشكّل العودة إلى الصراع بالوكالة الذي يعيد فرض خط أحمر يحظّر الهجمات المباشرة، أفضل أمل لتجنّب اندلاع حرب إقليمية. وبالتالي يرجّح أن تستكمل إيران إستراتيجيّتها في مقارعة «إسرائيل» من دون الانخراط المباشر، وخصوصاً أن أولويات طهران تتمثّل بضمان تخفيف العقوبات عليها، وتحقيق الاستقرار اقتصادياً إلى حد ما، وتطوير مشروعها النووي. بالمقابل تستمرّ «إسرائيل» بضرب المجموعات الموالية لإيران فيما تراقب عن كثب برنامج إيران النووي وتتحيّن فرصة للقضاء على المفاعل النووي الإيراني.
في نهاية المطاف وبعيداً عن التحليلات والخطابات الناريّة والشعبويّة، سوف يتخذ خامنئي ومستشاروه القرار الذي لا يضرّ ببقاء النظام الإسلامي في إيران من وجهة نظرهم إلّا بأقل قدر ممكن. ويبدو جلياً أنّ الحكومة الإيرانية تركّز حالياً على هجوم دبلوماسي يقوده الرئيس الإيراني لتعزيز ترتيبٍ سياسي محتمل مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي ومجمل قضايا المنطقة.