عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
مقاربة الملف الأوكراني قبل وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، لن يكون كما بعده. بهذه العبارة يمكن وصف «حال الصراع» الدائر بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من سنتين، في حرب تحوّلت إلى استنزاف لروسيا والغرب على حدّ سواء. ترامب الذي ينبذ الحرب، تربطه نوايا طيبة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد بدأت تلك الروابط بالظهور منذ الساعات الأولى للإعلان عن فوز ترامب، إذ قال حينما سُئِل عن آفاق التواصل مع الرئيس الروسي: «أعتقد أننّا سنتحدث».
أمّا بوتين فأكد على هامش «منتدى فالداي الدولي للحوار» أنّ روسيا مستعدة لإجراء حوار مع رئيس الولايات المتحدة الجديد. لم يكتفِ بوتين بهذه التصريحات الإيجابية، بل اعتبر أنّ الصراع بين روسيا وأوكرانيا سمح للولايات المتحدة بـ»تعزيز دورها القيادي في أوروبا»، وذكّر الأوروبيين من دون أن يُسمّيهم بأنّ «أمن البعض ينبغي ألا يتعارض مع أمن الآخرين»، مؤكداً في الوقت نفسه أنّ «العودة إلى نظام الثقة المتبادلة لا بدّ منه، كون تلك هي الخطوة الأولى نحو نظام أمني جديد.» إصرار الصحافيين في المنتدى على انتزاع تصريح واضح من بوتين، دفعه إلى قول الحقيقة العارية: «هناك أشخاص محترمون في أوروبا، مثل مستشار ألمانيا السابق غيرهارد شرودر، ولكن هناك عدد قليل جدا منهم يمكن عدّهم على الأصابع».
تلك التصريحات، ما كانت لتبصر النور لو فازت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بالرئاسة الأمريكية. تعرف موسكو حقّ المعرفة، أنّ المزاج العالمي سيتغيّر تجاه العديد من الملفات، بعد وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي في واشنطن. تعرف كذلك، أنّ الصراع في أوكرانيا سيتحوّل لصالحها، ليس لأنّ الرئيس الأمريكي الجديد سيقف إلى جانب روسيا. بل على العكس، لأنّ المذكور سيوقف دعم كييف العسكري والمالي اللامتناهي، الذي ساد خلال حقبة سلفه الديمقراطي جو بايدن. وبالتالي، فإنّ ترامب سيضع حداً لحربٍ استنزفت المقدرات الأمريكية والأوروبية على السواء لأكثر من عامين. وهو ما قد ينسحب كذلك على كل الدول التي تدور في الفَلَك الغربي، لأنّ الأمر أمسى مسألة «مزاج عام».
قد يسأل سائل: ما الدليل على هذا الكلام؟. الإجابة بسيطة، فقبل أيام انهار الإئتلاف الحاكم في ألمانيا، إثر إقالة المستشار أولاف شولتس وزير المالية كريستيان ليندنر، كما انسحاب بقية وزراء الحزب الليبرالي من الحكومة، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية عميقة، ومهّد الطريق لإجراء انتخابات مبكرة، قد تطيح بشولتس نفسه.
حصل ذلك بعد خلاف بشأن سياسة الميزانية، وسبل إنعاش اقتصاد ألمانيا المتعثر، مع انخفاض شعبية الحكومة، وصعود القوى المتشددة، ونتيجة إصرار المستشار الألماني على زيادة حزمة دعم أوكرانيا بمقدار 3 مليارات يورو إلى 15 ملياراً، رغم سعي القارة الأوروبية لتشكيل جبهة موحدة بشأن قضايا، تراوح بين الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة المحتملة، الحرب في أوكرانيا، ومستقبل حلف شمال الأطلسي (ناتو) خصوصاً قبيل وصول ترامب المحتمل (في حينه) إلى الرئاسة. كما تأتي أزمة انهيار الحكومة في منعطف حرج بالنسبة لألمانيا، في ظل تعثر الاقتصاد وتقادم البنية التحتية وعدم جاهزية الجيش!
وفور الإعلان عن فوز ترامب، دق الاتحاد الاوروبي ناقوس الخطر، إذ طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني جميع الدول الأوروبية بالتوحد تنسيق المواقف، في مواجهة الرئيس الجمهوري. كما كشف البلدان عن اجتماع بين وزيري دفاع البلدين تم الترتيب له سريعاً. وقال شولتس للصحافيين «يتعين على الاتحاد الأوروبي رص صفوفه بإحكام والتصرف بطريقة موحدة»، كاشفاً أن برلين تنسّق مواقفها مع باريس ورؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي الآخرين، خصوصاً في مجالات تمويل زيادة الإنفاق الدفاعي والتجارة.. وهذا يعني أن ركنيّ الاتحاد الأوروبي الرئيسيين عكفا على تحضير بلديهما لـ»الصدمة الكبرى» التي سيكون الملف الأوكراني من بينها.
هذا في ألمانيا وفرنسا، أمّا في تركيا فيبدو أنّ الإشارة تأخرت قليلاً في الوصول إلى أنقرة، فبينما كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول لصحيفة «حريت» التركية قبل فوز ترامب، إنّ بلاده «مندهشة» من استمرار تركيا في تزويد أوكرانيا بالأسلحة، مقابل طَلَبِها التوسّط لحلّ الصراع، كان لافروف يتهم القوات المسلحة الأوكرانية بـ»استخدام الأسلحة التركية لقتل العسكريين والمدنيين الروس»، إذ يبدو أنّ هذه التُهم لم تأتِ من عدم، خصوصاً مع ورود تقارير عدّة تُظهر أنّ أكثر من شركة تركية انخرطت بالفعل في تسليح الأوكرانيين. وكان آخرها شركة تصنيع الطائرات التركية Baykar Makina Sanay المنتجة لمسيرة «بيرقدار» الشهيرة.
تلك الشركة أبدت اهتمامها بتوريد هذا النوع من الطائرات ومكوناتها لكييف، من خلال عملية تصنيع مشتركة معها، وجرى الكشف عن تفاصيل هذه المحاولات منذ بداية الحرب في أوكرانيا. يبدو أنّ هذه الجهود عادت لتُفعّل اليوم من قبل الأتراك، من بوابة «تطوير مشترك» لمحركات المسيرات. ومن أجل مناقشة هذه المسألة، فقد قامت الشركة التركية المذكورة بتكليف رؤساء أقسام المحركات والإنتاج الميكانيكي والتصميم وإدارة المشاريع وتكنولوجيا المحركات، بزيارة الشركة الأوكرانية Zaporizhia Design المسماة على اسم عالم المحركات السوفييتي Alexander Georgiyevich Ivchenko. كما أُعلن عن موعد الزيارة التي ستكون في منتصف ديسمبر المقبل.
ومن المرجح أن كل هذه الأنشطة ستتوقّف بعد وصول ترامب إلى الرئاسة، فخلال ولايته الأولى شهدت العلاقات بين أنقرة وواشنطن زخماً إيجابياً، رغم الأزمات التي اعترضتها آنذاك بينها: أزمة القس أندرو برونسون، والداعية فتح الله غولن، ونظام الصواريخ الروسي S-400، وأزمة الطائرات «إف 35».
ترامب كان أكثر تقديراً واحترماً لشراكة الولايات المتحدة مع تركيا، من أسلافه الديمقراطيين، وتحديداً الرئيس بايدن، إذ أبدى محبة وصداقة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتقاه 9 مرات خلال ولايته اليتيمة، على خلاف السلوك الذي اتّبعه بايدن (لم يستقبله في البيت الأبيض حتى خلال وجود أردوغان في واشنطن)، حيث إن علاقة أنقرة ـ أردوغان مع الديمقراطيين كانت دائماً تميل إلى التوتر أكثر من الاستقرار.
أضف إلى هذا، أنّ أردوغان يعرف تماماً أنّ نهج ترامب يتّسم بـ»عدوانية أقلّ» تجاه موسكو، بل هو ميال إلى نسج تفاهمات بناءً على الصداقة التي تجمعه ببوتين، مقارنة بالديمقراطيين الأكثر تشدداً في منع التقارب مع موسكو. بالنسبة لتركيا، فإنّ علاقة بوتين ـ ترامب سيكون لها الكثير من المشتركات معها، وستوسّع الأفق أكثر وأكثر مستقبلاً، وهو ما قد يدفع بأنقرة إلى إعادة النظر في النهج «المدهش» (على حدّ وصف لافروف)، الذي تتبناه تجاه أوكرانيا.