كتب أمين قمورية…
لا تريد واشنطن نشوب حرب إقليمية على خلفيّة ما يجري في قطاع غزة. كذلك طهران تتجنّب التورّط المباشر في صراع كهذا. الأولى تحبّذ أن تتمكّن إسرائيل من سحق حركة “حماس” بأسرع وقت ممكن حتى لا تثير عمليات الإبادة الجارية في القطاع موجة تنديد عالمية لا قدرة لها على استيعابها أو لا ترتدّ سلباً على نتائج الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الوشيكة. الثانية تريد في المقابل أن يتوقّف العدوان فوراً لضمان عدم شطب حليفتها “حماس” من أيّ معادلة فلسطينية مقبلة. ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية أطلقت أيدي حلفائها في لبنان واليمن والعراق من أجل الضغط على إسرائيل وعلى واشنطن كي تضغط بدورها على حليفتها للعدول عن قرار الحسم.
غزّة وإيران والتضاريس العربيّة
أعلنت طهران عدم علمها المسبق بعملية “طوفان الأقصى”، كذلك فعل الأمين العام للحزب حسن نصر الله. وهما بذلك رفعا عنهما مسؤوليّتهما المباشرة عمّا حدث في 7 أكتوبر (تشرين الأول). لكنّهما يدركان عواقب التخلّي عن حليفتهما الفلسطينية في اللحظات الحرجة التي تعيشها في ظلّ العدوان، حيث إنّ مصيرها ومستقبلها السياسي على المحكّ. فـ”حماس” هي الحليف السنّيّ الأبرز لـ”محور المقاومة”، ورأس الحربة في مقاومة المحتلّ في فلسطين، وإذا ما تُركت وحدها بلا سند فسيكون ذلك البداية الفعليّة لإنهاء السردية الإيرانية المرتكزة على إعطاء الأولوية لفلسطين في السياسة الخارجية لطهران. كانت هذه السردية البوّابة لتمدّد النفوذ الإيراني في التضاريس العربية. لكنّ فلسطين في النهاية ليست أغلى على نظام الجمهورية الإسلامية من النظام نفسه، فكيف والحال كما هي اليوم حيث يعيش هذا النظام اضطراباً اجتماعياً وأسوأ أزماته الاقتصادية.
مشاركة فصائل “المقاومة والممانعة” في حرب إسناد غزة ودعمها من بعيد تحفظ لطهران ماء وجهها إزاء فلسطين، إذ لم تتركها في وقت الشدّة على غرار ما فعل بعض العرب، وتعفيها من التورّط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل أوّلاً، وتجنّبها الوصول إلى نقطة اللاعودة مع الولايات المتحدة ثانياً، وهذا هو الأهمّ. لكنّها أيضاً تفسح لها المجال لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية في مقابل أقلّ قدر من الخسائر الميدانية. وهكذا خلف دخان الحرائق تحوّلت الساحات الخلفيّة لغزة إلى حفلة مبارزة بالوكالة ورقصة “تانغو” بين القوّتين الإيرانية والأميركية حاولت إيران من خلالها عرض نقاط قوّتها:
1ـ “الحزب” ألمح بضرباته المضبوطة والمدروسة إلى أنّه قادر على إيلام الدولة العبرية في خاصرتها الرخوة في الجليل الأعلى والساحل الشمالي حيث المناطق الحيوية لإسرائيل، والكثافة السكانية، وميناء حيفا ومطار بن غوريون ومنصّات التنقيب عن الغاز والحقول والمناطق الصناعية الكبرى.
2ـ “أنصار الله” الحوثيون أظهروا بمنعهم السفن الإسرائيلية من عبور باب المندب الاستراتيجي أنّ أحد أهمّ طرق الملاحة الدولية والتجارة العالمية في مرمى نيرانهم. وبذلك وجّهوا، ومن خلفهم طهران، رسالة لأميركا خصوصاً، والمجتمع الدولي عموماً، بأنّ مواصلة إسرائيل اللعب بالنار في غزة بإمكانها أن تحرق في كلّ الاتجاهات، وتالياً من الأفضل وقف النفخ بهذه النار حتى لا تتحوّل بركاناً مدمّراً للجميع.
3ـ “الحشد الشعبي العراقي” خرق المحظور عندما مسّ بالسفارة الأميركية في بغداد بعد سلسلة طويلة من الاستهدافات للقواعد العسكرية الأميركية في العراق وشمال شرق سوريا والتنف، وكأنّه بذلك يقول إنّ في إمكانه وضع قرار مجلس النواب العراقي (غير الملزم للحكومة) المطالِب بإخراج القوات الأميركية موضع التنفيذ العمليّ.
التنفيذ شيء آخر
الرسائل شيء والتنفيذ الفعليّ شيء آخر، ذلك أنّ أوراق اللعب القوية ليست حكراً على إيران، فواشنطن لا يزال في جعبتها الكثير منها، لا سيما في بيروت وبغداد وصنعاء وبقيّة أرجاء المنطقة. وربّما كانت الرسالة الأميركية الأبرز في العاصمة العراقية نفسها حيث رضخت حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للضغط الأميركي وأُرغمت على ملاحقة “حلفائها” منفّذي قصف السفارة الأميركية في بغداد واعتقالهم، وهو ما أحدث شرخاً بين الحكومة وفصائل في “الحشد الشعبي”، وفي داخل “الحشد” نفسه بين مؤيّد للحكومة ومعارض. لا تزال واشنطن فاعلاً كبيراً في العراق، ولديها قواعد عسكرية نشطة وحلفاء عراقيون أقوياء وأصحاب سلطة، وبإمكانها نقل سفارتها والسفارات الغربية الأخرى إلى إربيل وتجريد بغداد من الغطاء الدبلوماسي، ولديها اتفاقية استراتيجية ملزمة مع العراق يترتّب على خرقها أعباء كبيرة على العراقيين.
في اليمن ليست لدى واشنطن أوراق ضغط مباشرة على الحوثيين، وقد لا يجدي قصفها من بعيد ولا يكون له أيّ تاثير على “عناد” الحوثيين وإصرارهم على مواصلة حرب إسناد غزة على طريقتهم الخاصة، لكنّها أطلقت تحرّكاً لتحويل مشكلة باب المندب إلى أزمة عالمية بهدف “تدويل القضية”، وتالياً وضع المجتمع الدولي في مواجهة “أنصار الله”، ولا سيما المتضرّرين الكبار من إقفال باب المندب مثل الصين حليفة إيران التي تنقل عبره معظم صادراتها إلى أوروبا وشمال إفريقيا، ومصر التي سترى في الإقفال استهدافاً مباشراً لها في قناة السويس.
لبنان وسياسة العصا والجزرة
أمّا في لبنان فإنّ سياسة العصا والجزرة، المعتمدة أميركياً وأوروبياً، التي تربط بين الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الحدودية المتنازع عليها وانسحاب “قوة الرضوان” من جنوب خطّ الليطاني أو مواجهة حرب تدميرية، لا تزال هي لبّ البازار الدبلوماسي المفتوح على هذه الساحة. لكن لا الحزب قادر على القبول بالمبادلة حتى لا يفسَّر ذلك تخلّياً عن فلسطين، ولا قادر على المعارضة حتى لا يفسّرها البعض تخلّياً عن أرض لبنانية محتلّة في مقابل الاحتفاظ بالسلاح.
تعرف كلّ من واشنطن وطهران ما لدى الأخرى من أوراق مستورة أو مكشوفة ونقاط قوّة ومكامن ضعف. وتدركان أنّ أيّ خطأ قد يقودهما إلى الخيار المكلف، وهما لا تريدانه أصلاً. أميركا لا تنفكّ تؤكّد رغبتها بعدم الانجرار إلى حرب واسعة وتكتفي بعرض عضلاتها الناريّة من دون إشعالها، وإيران تظهر ما لديها من ألغام مزروعة في أكثر من مكان من دون تفخيخها، ولا تكفّ في الوقت نفسه عن التذكير بأنّها لم تكن شريكة في قرار “طوفان الأقصى”، وكانت الاثنتان تؤكّدان رغبتهما في الحفاظ على مسار خفض التصعيد الذي انطلق في سلطنة عمان قبل 7 أكتوبر، وأثمر اتفاقاً غير معلن بينهما.
الفترة الباقية من الولاية الحالية للرئيس جو بايدن هي الفرصة الوحيدة لتجديد الاتفاق النووي بين الطرفين، قبل احتمال انتقال السلطة إلى الجمهوريين الذين أسقطوا الاتفاق السابق، ولذا لا غرابة أن نشهد المزيد من “المفاجآت” من بغداد إلى بيروت، لكن كلّها تبقى مشروطة بتخفيف حدّة النار في غزة.