كتب وليد شقير…
التبشير الغربي والأميركي بمرحلة ما بعد الحرب في غزة وضرورة تحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل بات كلاماً دعائياً لا أكثر نظراً إلى درجة الشراكة العالية مع الحملة العسكرية الإسرائيلية ضدّ “حماس” والقطاع، ونتائجها المأساوية. يتساوى مع ذلك التبشير الدعائي ما باتت وسائل الإعلام تصفه بالخلاف الغربي الأميركي – الإسرائيلي حول استهداف المدنيين في غزة. فحديث الخلاف هو إحدى الوسائل الدعائية في الحرب الدائرة، لتحييد الأنظار عن حقيقة المجزرة الجارية ضدّ الفلسطينيين.
من يراقب سلوك واشنطن وآخر مظاهره الفيتو في مجلس الأمن على مشروع قرار بوقف فوري إنساني لإطلاق النار، تتعزّز لديه القناعة بأنّ هناك إجازة قد تكون محكومة بتوقيت معيّن وقد تكون مفتوحة، لحكومة بنيامين نتانياهو لتواصل الحرب بلا أيّ رادع. فعلى الرغم من التلميحات إلى مهلة وضعتها أو ستطلبها واشنطن من تل أبيب لإنهاء العملية العسكرية، صدر توضيح من البيت الأبيض الأسبوع الماضي بأنّه لم يناقش مع إسرائيل مسألة توقيت وقف الحرب.
صفعتان لوزراء قمّة الرياض
الأسئلة التي طرحها رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني حول فعاليّة آليّات النظام الدولي القانونية في التعاطي مع حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، وما قاله نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي من أنّ إسرائيل تخلق موجة من الكراهية في المنطقة تستمرّ لأجيال، والتحذيرات المصرية من تهجير الغزّيّين إلى الأراضي المصرية، كلّها تضع العلاقة الأميركية العربية على المحكّ، بالتزامن مع الانتقادات لقصور المواقف العربية عن اتخاذ إجراءات ضاغطة تدفع الدول الغربية إلى ممارسة نفوذها الفعليّ على إسرائيل لوقف الحرب.
لم تأبه واشنطن لكلّ ما يقوّض علاقتها مع حلفائها العرب لمناسبة زيارة لجنة الاتصال الوزارية المنبثقة من القمّة الإسلامية العربية التي انعقدت في الرياض في 11 تشرين الثاني الماضي لها. تلقّى الوفد صفعتين من وزير الخارجية أنتوني بلينكن:
– هو استقبل الوزراء بالفيتو الأميركي على مشروع قرار دولة الإمارات العربية المتحدة في مجلس الأمن بوقف إطلاق النار الفوري، الذي هو أحد بنود قرار القمّة التي كلّفت الوزراء التحرّك نحو دول القرار للمطالبة به.
– وهو ودّعهم بقراره استخدام قانون الطوارئ لبيع إسرائيل 14 ألف قذيفة دبّابة من أصل 45 ألف قذيفة، على الرغم من معارضة الكونغرس، مبرّراً ذلك بأنّ له علاقة “بالأمن القومي لأميركا”، في وقت يتضمّن قرار القمّة في بنده الرابع ما حرفيّته “مُطالبة كلّ الدول بوقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال التي يستخدمها جيشها والمستوطنون الإرهابيون في قتل الشعب الفلسطيني وتدمير بيوته ومستشفياته ومدارسه ومساجده وكنائسه”.
تناقض المواقف الأميركيّة
الصفعتان تتعارضان مع موقفين لبلينكن:
الأوّل أنّه تحدّث في بيانه عن لقائه مع وفد الدول الإسلامية والعربية (57 دولة) عن “مناقشة الجهود المبذولة لتلبية الاحتياجات الإنسانية في غزة”، التي ترفض إسرائيل تمريرها للنازحين وللمستشفيات ومحطات المياه.
الثاني إشارته في البيان إلى أنّه ناقش مع الوزراء “هدفنا المشترك المتمثّل في إقامة دولة فلسطينية مستقبلية إلى جانب إسرائيل”، في وقت يصرّ نتانياهو الذي تبرّر واشنطن حربه ضدّ “حماس” والفلسطينيين، على أن يدير جيشه القطاع بعد انتهائها في مرحلة انتقالية غير محدّدة الأفق. فإذا كانت النيّة انتهاء الحرب بوضع السلام على سكّة البحث، وإذا كان التوجّه تجديد التفاوض على السلام والدولتين، فما الحاجة إلى 14 ألف قذيفة دبابة؟
ليس هناك ما بعد غزّة
في وقت تكرّر التصريحات الغربية الحديث عن دور السلطة الوطنية الفلسطينية في إدارة غزة بعد وقف الحرب، فإنّ الإجازة الدولية لإسرائيل بأن تواصل تدمير القطاع وتهجير المدنيين، دفعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى القول: “فيتو أميركا على قرار مجلس الأمن يجعلها شريكة في جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وموقف عدواني وغير أخلاقي”.
يختصر أحد السياسيين اللبنانيين نمط التفكير الإسرائيلي برواية نقلها عن دبلوماسي غربي مع أحد المسؤولين الإسرائيليين. حين سأل الدبلوماسي: “ماذا بعد غزة؟”، أجابه المسؤول الإسرائيلي: “السؤال غلط. ليس هناك ما بعد غزّة. سينشأ وضع في غزّة يستوجب بقاءنا طويلاً”.
الطبيب أبو ستّة و”القتل الاستعراضيّ”
كثرت التصريحات والكتابات عن أنّ ما يجري في غزة مخطّط قديم لتهجير سكّانها إلى مصر، تمهيداً للتفرّغ للضفة الغربية وتهجير سكانها إلى الأردن وتصفية القضية. إلا أنّ الشهادة الأكثر بلاغة سياسياً لأهداف ما يجري في القطاع، جاءت على لسان الطبيب الجرّاح البريطاني، الفلسطيني الأصل، الدكتور غسان أبو ستّة، الذي استخلص النتائج السياسية من معايشته الواقع الإنساني والطبّي المأساوي في غزة، التي دخلها في 9 تشرين الأول، وغادرها قبل الجولة الثانية من الحرب، لفقدان المخدّر في مستشفى الشفا الذي انتقل إليه بعد تعطيل قدرة المستشفى المعمداني على إجراء العمليات الجراحية.
يستنتج أبو ستّة الذي التقى في مقرّ “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في بيروت باحثين وكتّاباً وناشطين وصحافيين، من معايشته لمضاعفات الحملة العسكرية الإسرائيلية خلاصات عدّة أبرزها:
1- أنّ العنف كان “استعراضياً”، أي أنّ المطلوب كان أن يشاهد الغزّيّون، والفلسطينيون والعالم، كيف يتمّ التفظيع بالمدنيين بطريقة مجرّدة من المفاهيم الأخلاقية، ترويعاً للسكان لخلق كارثة لجوء كبرى ثانية، أي نكبة ثانية. فمع الوقت يتقبّل العالم فكرة الإبادة.
2- تذكّر أبو ستة مقالات للمؤرّخ الصهيوني بني موريس في صحيفة “هآرتس” التي قال فيها إنّ الفلسطينيين “سيتغلّبون علينا… وكان علينا طرد جميع الفلسطينيين في عام 48، وقتل العرب لبعضهم يُفرحني”. وما دفع أبو ستّة إلى العودة لمقالات بني موريس أنّه شاهد كيف أنّ القصف الإسرائيلي يؤدّي إلى اختفاء حيّ بكامله، وإلى إبادة عائلات بكاملها.
أطفال بلا أسماء…
3- أنّ عدد الأطفال الذين قُتلوا في الحرب هائل تصل نسبته إلى واحد في المئة من عدد السكان، فيما نسبة الجرحى تصل إلى 2 في المئة، منهم أكثر من 900 بُترت أطراف في أجسامهم.
4- أنّ أغلبية عدد الأطفال الناجين هم في سنّ أصغر من أن يستطيعوا قول أسمائهم، في وقت أبيدت عائلاتهم بالكامل. وبعضهم ممّن قضى دُفن من دون معرفة اسمه الحقيقي. وهذا ينطبق على العديد من الأطفال الخدّج. وهذا يشير إلى ضرب الهرمية السكانية.
5- حرب غزة كانت مسرحاً لتجربة أسلحة جديدة، إذ ظهرت قنابل حارقة غير الفوسفور الأبيض، تخلق لهباً يحرق ما حولها. أُلقيت على مخيّم الشاطئ بشدّة لأنّ الجيش الإسرائيلي واجه مقاومة شرسة عند تقدّمه نحوه. ومن الأسلحة أيضاً صاروخ من صنف “هيلفاير” يتشظّى بانفجاره إلى ما يشبه الصحون التي تبتر أطرافاً من الجسم. وهو الذي ظهر عند قصف المستشفى المعمداني (الذي كان أبو ستة يعمل فيه).
6- استكمال جعل غزة غير قابلة للسكن بعد وقف النار، باستهداف القطاع الصحّي وتدمير المستشفيات، بعد النجاح في إسكات العالم عن الاحتجاج إثر قصف المعمداني، وإيهام الرأي العامّ بأنّ صاروخاً فلسطينياً سقط فيه.