كتب منير الربيع…
صعبة ومريرة مواجهة تجربة عايشت الموت إلى هذا الحد، واللقاء مع شخص خرج من حرب فظيعة، وشهد على كل تفاصيلها ويومياتها ومجازرها.
تشتبك مجموعة من الانفعالات، تتضارب الأفكار، تختلط المشاعر، وتتزاحم الأسئلة المتسابقة بين العاطفة والعقل. هل يجب السؤال عن الأحوال والأهوال وما عايشه البروفسور غسان أبو ستة من فظائع يومية باعتباره أحد أبرز الكوادر الطبية التي بقيت في قطاع غزة وعاين جثثاً وأشلاء؟ أم تقفز الأسئلة حول المصير والمستقبل بمآلاتهما السياسية والاجتماعية؟ يولد هذا التزاحم في الأسئلة، من وقع “خطوات متسارعة” للطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة، الذي تسابق مع القذائف والغارات للوصول سيراً على الأقدام إلى مستشفى الشفاء في اليوم الرابع للحرب على غزة. وتعود لتتزاحم مع خطواته خارجاً بعد 43 يوماً على بقائه هناك.
جلجلة الطبيب
اختار غسان أبو ستة جلجلته كطبيب ذات رسالة إنسانية، هدفها الدفاع عن البقاء، والمساعدة في توفير مقومات الصمود داخل قطاع غزة. لكن الأكيد أن الرجل خرج من القطاع أكثر من طبيب، فإلى جانب الدقّة في رصد الحالات الطبية والخبرة “العسكرية” التي كونها حيال الأسلحة المستخدمة من مشاهدته للإصابات. إلا أن أبو ستة الذي تحول أيقونة للتفاني أو للتمسك بمقومات الصمود، يخرج من القطاع وهو أكثر العالمين بأحواله المستقبلية والتي ستكون عبارة عن أهوال. أهوال تتجاوز الأبعاد الآنية للمعارك والغارات وعمليات التجزير الإسرائيلية، لتفتح الأفق على مآلات التهجير. وهو بكل الأحوال عملية إسرائيلية ممنهجة.
يحيط غسان أبو ستة بتلابيب “العقل الإسرائيلي” الباطن والعلني. وبعيداً من تفاصيل المواجهات، والصمود الأسطوري للفلسطينيين، الذين يفضلون البقاء والموت في مناطقهم ومنازلهم على ذلّ اللجوء، فإن النظرة التي يتحدث بها الطبيب الفلسطيني الذي عايش حصار بيروت عام 1982، تبدو استراتيجية وتنظر إلى ما هو أبعد، واستشراف مرحلة ما بعد الحرب.
خطة إبادة
النظرة واضحة لدى أبو ستة، الذي يعتبر أن ما يقوم به الإسرائيلي هو عبارة عن خطة إبادة مستمرة. فمنذ بداية المعركة، كان العنف الاسرائيلي والإجرام استعراضياً. وهذا له أهداف بعيدة المدى في نشر الرعب ورفع معنويات مجتمعه. بالنسبة إليه، فقد تعمد الاسرائيليون تخطي كل الخطوط الحمر وتجاوز القانون الدولي بهدف ترويع السكان لخلق كارثة لجوء ثانية. لذلك لا بد من تسمية الحرب بأنها الجزء الثاني من النكبة. وقد صرّح الكثير من المسؤولين الإسرائيليين بذلك.
منذ بداية الحرب كان القصف يختلف عن بقية الحروب الثانية، لأنه لم يكن هناك استهداف لمبان معينة، بل استهداف أحياء بأكملها وإخفائها. لذلك فإن ظاهرة إبادة عائلات كاملة من ثلاثة أجيال، والعدد المريع في إصابات الأطفال، إذ تم قتل واحد بالمئة من أطفال قطاع غزة، واستهداف أربعة مستشفيات للأطفال، ثم استهداف مستشفى السرطان التركي ومستشفى العيون، وصولاً إلى استهداف مستشفى الشفاء والأندونيسي والمعمداني، وذلك بهدف تدمير المنظومة الصحية بشكل كامل، وخصوصاً في شمال القطاع.
ما يؤسس له الإسرائيليون هو كارثة قادرة على تغذية نفسها وتستهلك قدرة الناس على الصمود.
ما بعد غزة
كذلك فإن الاستهداف كان متعمداً للأطقم الطبية، وبالتأكيد لم يكن عشوائياً، خصوصاً أنه تم استهدف متخصصين لا بدلاء لهم، وصولاً إلى استهداف الأكاديميين والكتّاب.. يدلّ على عملية ممنهجة هدفها تدمير كل ما يرمز إلى البقاء في غزة.
ما يريده الإسرائيليون هو تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة حتى بعد وقف اطلاق النار، بتدمير القطاع الصحي والصرف الصحي وتحلية المياه، وكل المرافق، وخصوصاً التدمير المنهجي لكل المستشفيات. وذلك كي ينهار صمود الناس بعد وقف إطلاق النار. ما سيدفع الناس إلى مغادرة القطاع. وهذا هو الهدف الأساسي.
الهدف هو إحداث تغيير ديمغرافي في غزة وفلسطين ربطاً بتدمير ما بين 60 و70 بالمئة من المنازل. ولاحقاً ستأتي الحرب الاسرائيلية إلى الضفة الغربية بعد الحرب على غزة. وبالتالي، فإن الإسرائيلي يحاول التعويض عن ما لم يستطع تحقيقه في الحرب وبالقوة العسكرية، بل يريد تحقيق أهدافه بعد الحرب. وغالباً ما حققت إسرائيل أهدافها بعد الحروب.
المعركة الأساسية بالنسبة إلى الفلسطينيين يجب أن تكون من أجل فتح الحدود لمواد البناء والإعمار وإعادة تنشيط القطاعات الأساسية، وخصوصاً القطاع الصحي، لتتمكن الناس من البقاء. لأنه إذا أوقفت إسرائيل الحرب الآن، واستمر الحصار، ستكون الأوبئة فتاكة بالقطاع وسكانه، ولن تكون هناك أي مقومات للصمود والبقاء.