كتب ابراهيم ريحان…
يعلو ضجيج الحرب في المنطقة من قطاع غزّة وصولاً إلى مياه البحر الأحمر مروراً بجبهة جنوب لبنان والعراق. وحدها جبهة الجولان السّوريّ خيّمَ عليها الصّمتُ. لم يكن هذا الصّمت من فراغ، فسوريا باتت ملعباً للقوى الإقليميّة والدّوليّة الكبرى، ولا تريد روسيا أو إيران خسارتها في “لحظة غضبٍ غير محسوبة”.
كذلك لا تريد موسكو، ولا إسرائيل، أن يعودَ الغرب للاهتمام بأوكرانيا، وتريد أن تعودَ هي إلى النّظام العالميّ من بوّابة الشّرق الأوسط.
أعادت هذه “الحسابات” تنشيط الخطوط السّاخنة بين موسكو وواشنطن وتل أبيب، والعنوان واحد: “تحييد جبهة سوريا”. ولئن ماتَ هنري كيسنجر قبل أيّامٍ، وزير الخارجية الأميركي “التاريخي”، منذ 50 عاماً، إلّا أنّ اتفاق “فصل القوّات” الذي أبرمه مع الرّئيس السّوريّ الرّاحل حافظ الأسد (في 1973) لم يمُت بعد، ولا يزال “الحلّ الأنسب” في منطقة الجولان.
إعادة اتّفاق 2017 – 2018
علمَ “أساس” من مصدر إقليميّ واسع الاطّلاع أنّ روسيا ودولاً إقليميّة تنشطُ على هذا الخطّ عبر إعادة إحياء الاتفاق الضّمنيّ بين موسكو وتل أبيب الذي أبرمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بين عامَيْ 2017 و2018.
يقضي هذا الاتفاق بإبعاد الفصائل المُسلّحة الموالية لإيران مسافة 80 كلم عن الحدود السّوريّة مع إسرائيل، على أن يكونَ الكرملين هو الضّامن لأمن الكيان العبريّ، وأن توقِف واشنطن تزويد المُعارضة السّوريّة بالسّلاح.
بعد أيّامٍ من بدء الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، عزّزت إيران وجود فصائلها في جنوب سوريا، وخصوصاً مُقاتلي “لواء فاطميّون” الأفغانيّ، وبعض الميليشيات العراقيّة. جاءَت هذه الخطوة من باب الضّغط، لا المشاركة في الحرب. يؤكّد هذا “الهدوء النّسبيّ” لجبهة الجولان، الذي تخرقه بعض قذائف الهاون اليتيمة التي تسقط في مناطقَ مفتوحة.
منذ صباح الثّامن من تشرين الأوّل إلى اليوم، لم يهدأ سلاح الجوّ الإسرائيليّ في استهداف مطارَيْ دمشق وحلب بعد كلّ “صيانةٍ للمدارج”، ومحاولة إعادتهما إلى الخدمة.
هذا ما دفَع روسيا إلى السّماح للطّائرات الإيرانيّة بالهبوط على مدرجَيْ “حميميم” و”تدمر”، لكن ضمنَ ضوابط عنوانها: “ممنوع إدخال أنظمة الدّفاع الجويّ، وتحديداً منظومة “خرداد” الإيرانيّة المتطوّرة، أو الصّواريخ الدّقيقة على مختلف عياراتها ومداها”.
أسباب تحييد سوريا
كثيرة هي الأسباب التي دفعت موسكو، ومن خلف الكواليس طهران، إلى تحييد أو محاولة تحييد جبهة سوريا:
1- تُحاول روسيا تجنّب دخول أو إدخال النّظام السّوريّ في حربٍ مع الجيش الإسرائيليّ. إذ إنّ ميزان القوى العسكريّة والنّاريّة والتكنولوجيّة تميل كفّته حتماً للجيش العبريّ، وهذا يعني إمكانيّة تدمير أغلب فرق جيش النّظام بساعات قليلة.
2- تكمن خشية من أن تُقدِمَ إسرائيل على اجتياح المنطقة المُحاذية للجولان، التي تبعد عن العاصمة دمشق ما بين 60 و75 كلم فقط. وهي منطقة سهولٍ تجعل من اختراق الحدود السّوريّة أمراً سهلاً. وهذا ما حصلَ في حرب تشرين 1973، حين وصلَ الجيش الإسرائيليّ بعد هجومه المُضادّ إلى مناطق غير بعيدةٍ عن العاصمة السّوريّة.
3- ضربُ النّظام عسكريّاً يعني وضع روسيا أمام خياريْن:
– الأوّل: التدخّل في الحرب لحماية مصالحها في دمشق، وهذا يجعلها في مواجهة مباشرة، لا تريدها، مع الولايات المُتحدة وحلفائها.
– الثّاني: الانكفاء عن المعركة وتعريض مصالحها في سوريا للخطر في حال خسرَ النّظام السّوريّ حربه.
4- كما روسيا كذلك إيران. إذ لا تُريدُ طهران أن تُغامر هي الأخرى بوجودها في سوريا، وذلك بعدما دفعَت أكلافاً باهظة ماليّاً واقتصاديّاً وبشريّاً وعسكريّاً في سبيل إنقاذ النّظام أوّلاً، وتثبيت قواعدَ لها على امتداد الجغرافيا السّوريّة ثانياً.
بحسب المصدر فقد عرضَت روسيا على تل أبيب أن تضمَنَ الحدود الجنوبيّة السّوريّة، على غرار 2017 – 2018، في مقابل أن تتوقّف تل أبيب عن تزويد أوكرانيا بالمعلومات الاستخباريّة والخبرات والأسلحة عبر قنوات أوروبيّة.
مارسَ الكرملين ضغوطاً سياسيّة على إسرائيل، والغرض منها دفع تل أبيب إلى أن توافق على ما سلفَ ذكره.
كان أحد أوجه هذه الضّغوط استقبال نائب وزير الخارجيّة الرّوسيّ ميخائيل بوغدانوف وفداً قياديّاً من حركة “حماس” قبل أسابيع، وتصريح مندوب روسيا في الأمم المُتحدة فاسيلي نيبينزيا عن أنّ “روسيا تقترب من الانخراط في الصّراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ وإمكانيّة دخول سوريا في مواجهة واسعة”.
أمّا طهران فلا تريد هي الأخرى أن تفقدَ ما حقّقته وتُحقّقه مفاوضاتها مع الولايات المُتحدة عبر سلطنة عُمان. إذ إنّ القنوات بينهما مفتوحة على مصراعيْها، وقد تُصدِر واشنطن سلسلة إعفاءات جديدة لإيران في إطار المُحادثات النّوويّة التي تجري بهدوء في سلطنة عُمان بعيداً عن ضجيج المعارك في المنطقة.
البحث عن مكاسب.. وأبعد
ولئن كانت روسيا تسعى إلى تحييد سوريا، إلا أنّها في الوقت عينه تسعى إلى تحصيل مكاسبَ ممّا يحصل في غزّة.
حوّلت حربُ غزّة أنظار الغرب وسلاسل توريده من أوكرانيا إلى إسرائيل. وهذا بحدّ ذاته مكسب للكرملين.
منذ اليوم الأوّل للحرب، كان الرّئيس الرّوسيّ والمسؤولون في موسكو يُصرّحون أنّ واشنطن لم تعد تصلح للعبِ دور صانع السّلام في المنطقة بسبب تحيّزها التّام لإسرائيل. وهذا يعني أنّ روسيا تبحث عن دورٍ في صراع الشّرق الأوسط يُعزّز صورتها على السّاحة الدّوليّة بعد دخولها في ما يُمكن تسميته “عزلة غربيّة تامّة” بعد حرب أوكرانيا.
بحسب تقريرٍ نشره “معهد واشنطن لدراسات الشّرق الأدنى”، فإنّ الكرملين دائماً ما يميل إلى التّعاطي مع القوى المُناهضة لأميركا في الشّرق الأوسط. ويساعد على رفع منسوب الفوضى التي تُؤدّي إلى “تآكل النّظام العالميّ الليبراليّ”، وهو ما يُساعده في حربه الأوكرانيّة.
من جهته، اعتبر بيتر شرودر، النّائب السّابق لرئيس الاستخبارات الوطنيّة الأميركيّة لشؤون روسيا وأوراسيا، في مقال له نشرته مجلة “فورين بوليسي”، أنّ نفوذ روسيا في المنطقة يقف عند نقطة انعطاف جديدة. إذ برز تراجع روسيا، بحسب شرودر، في المنطقة “بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول). وفي حين كانت موسكو تلعب دوراً محورياً في الدبلوماسية المحيطة بالحرب الأهلية في سوريا قبل 10 سنوات، فإنّ الدفع الروسي في مجلس الأمن الدّوليّ من أجل وقف إطلاق النار في غزّة لم يكتسب سوى القليل من الاهتمام. ويرمز هذا التناقض إلى نهاية عودة موسكو إلى المنطقة التي دامت عقداً من الزمن”.
رأى البروفسور في “مركز هنري كيسنجر” سيرغي رادشينكو في مقالة نشرتها صحيفة “الغارديان” أنّ استقبال موسكو لوفد حماس “يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من استراتيجية فلاديمير بوتين المتعمّدة لتعزيز نفوذ روسيا المتضائل في الشرق الأوسط. ومن الممكن أن تساعد الدبلوماسية الماهرة والانتهازية السّاخرة الكرملين على تحديد دور لنفسه في منطقة اعتُبرت منذ فترة طويلة ضرورية لطموحات روسيا كقوة عظمى”.
أشارَ رادشينكو إلى أنّ دور روسيا في المنطقة دائماً ما كان يسعى إلى تقويض القوى الغربيّة، مستشهداً بدعم الاتحاد السّوفيتي لمصر وسوريا والعراق منتصف خمسينيّات القرن الماضي، وإعادة بناء الجيشَيْن المصري والسّوري بعد حرب 1967، واستغلال موسكو العدوان الثّلاثيّ على مصر في 1956 للإعلان عن دعمها لقضية التحرير العربي ولصرف الانتباه عن الغزو السوفيتي للمجر.
أمّا اليوم، فما يستطيع بوتين أن يفعله هو الاستفادة من علاقته مع إيران وسوريا، واتصالات روسيا مع حماس، لمحاولة إدخال روسيا في عملية السلام في الشرق الأوسط. وعندما سُئل عمّا إذا كانت روسيا قادرة على التوسّط في الصراع، ادّعى بوتين أخيراً أنّها تستطيع ذلك، بالاعتماد على علاقاتها التقليدية مع الفلسطينيين، وعلاقاتها الجيّدة مع إسرائيل.
يلعبُ الكرملين على تناقضات الشّرق الأوسط. يسعى إلى تحييد سوريا، ونفسه، عن نيران حرب غزّة. يجتمع مع حماس، ويناورُ إسرائيل. لم تعُد أهداف روسيا خافية، فهي تريد إلهاء عيون الغرب عن أوكرانيا، وشقّ طريقٍ نحوَ حماية مصالحها في المنطقة.