كتب عادل بن عبد الله…
إن المقصود بالفرص المهدورة في التراث السياسي والأيديولوجي العربي عموما والتونسي خصوصا؛ هي تلك الأحداث المفصلية التي كانت تستطيع أن تمثّل “قطائع” مع ما سبقها لو تمت إدارتها بصورة مختلفة. ولا شك في أن هذا الطرح يتأسس فلسفيا على نفي الحتمية وعلى اعتبار ما حدث هو مجرد إمكان من جملة ممكنات ضائعة.
ففي تونس مثلا كان يمكن لميلاد الجمهورية على أنقاض النظام الملكي أن يؤسس لديمقراطية حقيقية، ولكنّ الجمهورية تحولت في لحظتها “الدستورية” إلى مجاز ليس تحته إلا نظام جهوي تابع يقوم على التحديث الصوري وعلى عبادة الزعيم وبَولسَة الفضاء العام. وكذلك الشأن في انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 الذي كان شعاره “لا ظلم بعد اليوم”، فإذا به يتحول في لحظته التجمعية إلى امتداد للنظام الجهوي الريعي البورقيبي وإلى حكم مدى الحياة لم ينته إلا بقيام الثورة التونسية.
لقد مثّلت الثورة أيضا فرصة مهدورة استطاعت النواة الصلبة للمنظومة القديمة التحكم في مساراتها ومآلاتها لِتُحوّلها واقعيا إلى لحظة جديدة في الجمهوية التجمعية- الدستورية وحلفائها في اليسار الوظيفي، ومن التحق بهم من رموز “التوافق” في حركة النهضة.
ويبدو أن “تصحيح المسار” الذي استمد شرعيته الشعبية من سردية “الإصلاح” والقطيعة مع “العشرية السوداء” (أي عشرية الانتقال الديمقراطي الفاشل)؛ لم يكسر هذه القاعدة السياسية بحكم الوعي الانقلابي الغالب على النخب البرلمانية وغيرها، وكذلك بحكم علاقة “التعامد الوظيفي” الذي يربط “تصحيح المسار” بالمنظومة القديمة وبرعاتها في محور الثورات المضادة رغم سردية “التأسيس الثوري الجديد” ومن بعدها سردية “التحرير الوطني”. فما زال أصحاب “القضايا الصغرى” وأصحاب الماضي النضالي الصفري يتحكمون في دواليب الدولة ويدجّنون أصحاب “القضايا الكبرى”؛ إما بالاستلحاق في جهاز الدعاية غير الرسمية (باستثمار الصراعات البينية والعداوات التاريخية بين المؤدلجين يمينا ويسارا)، أو بالتهميش والإقصاء (باستعمال أجهزة الدولة الأمنية- القضائية بالإضافة إلى جهاز الدعاية الإعلامية العموميّة والخاصة).
جاء طوفان الأقصى في سياق تونسي مأزوم يمكننا اعتباره اللحظة الأخيرة والأكثر رمزية في فشل “الربيع العربي” ونجاح استراتيجية محور الثورات المضادة في إعادة أدوات السيطرة والتحكم لورثة المنظومات القديمة، بعيدا عن أوهام التشاركية والديمقراطية والإرادة الشعبية.
وقد مثّل سقوط “الاستثناء التونسي” ضربة قاسية للمشروع الديمقراطي ولحلم التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين؛ بعيدا عن منطق النفي المتبادل وعن هيمنة الدولة العميقة ومكوناتها المالية والأمنية والعسكرية والإعلامية. فبصرف النظر عن البنية الحِجاجية للجملة “الانقلابية” (ثورة تصحيحية كما هو في مصر أو “تصحيح مسار” كما هو في تونس)، فإن تلك الجملة السياسية كانت تقوم في جوهرها على شيطنة الديمقراطية وتسفيه الإرادة الشعبية المعارضة، كما تقوم أساسا على استهداف المستفيد الأبرز من الثورات العربية: الحركات الإسلامية ذات المرجعية الإخوانية.
ففي مصر قام العسكر بالانقلاب على الثورة المصرية تحت شعار إنقاذ البلاد والسلم الأهلية من مخاطر “الإخوان” رغم قبول هؤلاء بقوانين اللعبة الديمقراطية، بل رغم وجودهم في مناصب سلطوية ليس لها أي قيمة بحكم هيمنة العسكر وأذرعهم الإعلامية والاقتصادية والثقافية على المشهد المصري، وقد جاء الانقلاب العسكري بقيادة السيسي لينهِيَ الحياة السياسية في مصر (وليس فقط الإخوان). ولكنّ ذلك لم يمنع أغلب مكونات “العائلة الديمقراطية” في تونس من اعتبار ما قام به “ثورة تصحيحية”، بل لم يمنع بعض رموز تلك العائلة من المطالبة بـ”تَوْنسة” التجربة المصرية، مع تعديلها لتستهدف “الإخوان” (أي النهضويين) دون غيرهم من الفاعلين السياسيين “القانونيين”.
ومهما كان موقفنا من تصحيح المسار، فإن تثمين الرئيس للنموذج المصري وعلاقاته المتينة بـ”محور الثورات المضادة” (على عكس البرود المعروف في علاقاته بقطر أو تركيا أو الحكومة الشرعية في طرابلس)؛ قد يجعل من المشروع اعتبار “التأسيس الثوري الجديد” مجرد مجاز انقلابي يقوم على تصفية منجز الانتقال الديمقراطي الهش، بهدف إعادة السلطة إلى مكونات المنظومة القديمة لكن بسردية سياسية جديدة تستثني “الإخوان” بمنطق الاستئصال الناعم (الإقصاء السياسي لرموز الحركة وتحريك ملفات قضائية ضدهم وغلق مقرات الحركة، دون الاستهداف الأمني والقضائي المُمنهج لكل النهضويين على أساس”الهوية”)، وليس بمنطق الاستئصال الصلب كما هو الحال في مصر (تصنيف “الإخوان” جماعة إرهابية وتحويلهم جميعا إلى ملف أمني- قضائي ).
إذا كان الموقف الرسمي المصري المعادي للمقاومة بحكم تركيبتها الإخوانية مفهوما (بحكم تداعيات انتصار حماس والجهاد على الوضع المصري في الملف “الإخواني” أو حتى في الملف الديمقراطي بصورة عامة)، فإن الموقف التونسي يظل ملتبسا. فنحن نستطيع أن نفهم أن العسكر في مصر سيتضررون من انتصار المقاومة ومن سقوط مشروع التطبيع وصفقة القرن، وهو ما يجعل من ذلك النظام حليفا استراتيجيا للكيان الصهيوني؛ مثله في ذلك كمثل كل مكونات محور “التطبيع” التي هي ذاتها مكونات محور “الثورات المضادة” (خاصة السعودية والإمارات)، فتلك الدول التي لم تخف انحيازها الواضح للسردية الصهيونية ورفضها لأي قرار عربي أو دولي داعم للمقاومة.
ورغم أن الموقف الرسمي التونسي كان منذ الأيام الأولى للطوفان مساندا للمقاومة، فإن تلك المساندة تظل “إشكالية” بحكم التوتر أو التناقض بين الخطاب الرئاسي الموجه للاستهلاك المحلي (الدعوة لتحرير فلسطين، كل فلسطين، الدعم المطلق للمقاومة ومناهضة الصهيونية العالمية) وبين المواقف الرسمية الممثلة للدولة التونسية في الخارج (رفض قرار الهدنة الإنسانية الذي أقرته الأمم المتحدة، الإمضاء على البيان الفضيحة لوزراء الخارجية العرب، مواصلة الاعتراف بسلطة التنسيق الأمني الفلسطيني وعدم التواصل مع المقاومة، إقرار بيان قمة الرياض).
رغم أن طوفان الأقصى قد مثل فرصة تاريخية للقيام بمراجعات داخلية وخارجية جذرية، لا يبدو أن النظام التونسي مهتم بالمُضي في تلك المراجعات بقدر اهتمامه بإتمام مشروعه السياسي (إتمام الاستشارة الوطنية حول التعليم، الإعداد لانتخابات مجلس الأقاليم والجهات).
فعلى الصعيد الخارجي لا يبدو أن طوفان الأقصى قد أثّر على صانعي السياسات الخارجية، فتونس ما زالت عضوا ناشطا في المنظمة الفرنكفونية، بل ما زالت قاعدة متقدمة في خدمة مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية، ولم يستطع الموقف الفرنسي المناهض للمقاومة والداعم بصورة مطلق للكيان الصهيوني أن يغير هذا الواقع. كما أن علاقات تونس بمحور “التطبيع” ما زالت كما هي. أما على الصعيد الداخلي، فإن النظام ما زال أسير منظومة الاستعمار الداخلي وما زال يروج لانتصارات وهمية على الفساد، وهي في جوهرها مجرد صراعات داخلية بين أجنحة المنظومة.
إن “تصحيح المسار” الذي أقرّ دستورا جديدا وحكم بالمراسيم والأوامر الرئاسية وأعاد هندسة الحقل السياسي والمجال العام باستعمال القوة الصلبة، ما زال عاجزا عن المس بتشريعات الدولة الريعية في القطاعات ذات الربحية العالية وغيرها، وما زال يحاول تجنب الإضرار بمصالح الكارتلات المالية والجهوية والأيديولوجية (الفرنكفونية) رغم تحكّمه ظاهريا في كل مفاصل الدولة. فحتى مشروع “الشركات الأهلية” الذي روّج له أنصار الرئيس باعتباره أداة لصناعة الثروة ولتعديل التفاوتات الاقتصادية بين الأفراد والجهات، لا يمكن للمستفيدين منه التحرك إلا بعيدا عن القطاعات الاقتصادية التي تهيمن عليها العائلات الكبرى.
لقد أكّد طوفان الأقصى (من خلال مواقف الأنظمة العربية المخزية) وجوب مراجعة مفهوم الديمقراطية القائمة على إقصاء المكون الإسلامي، أي مراجعة مقولة “الاستثناء الإسلامي” التي لم يستفد منها إلا متصهينة العرب وساداتهم في تل أبيب والغرب. فالقول بتعارض الإسلام جوهريا مع الديمقراطية وبوجوب إقصاء الإسلاميين منها، هو قول يمهد للاستبداد ويشرعنه، ولكنه أيضا قول يخدم الكيان الصهيوني من جهة إضعاف الجبهات الداخلية في الدول العربية وإذلال العرب بأنظمة لا يمكنها الاستمرار إلا بدعم الغرب، أي بالدخول في مشروع التطبيع ومناهضة مشروع التحرير سواء في فلسطين أو في باقي الدول العربية.
ختاما، يبدو أن العقل السياسي التونسي -سواء في الحكم أو في المعارضة- سيفوّت فرصة “الطوفان” للقيام بالمراجعات التي يستوجبها الواقع محليا وإقليميا. فالمعارضة ما زالت عاجزة عن تجاوز المحدد الأيديولوجي للصراع، وما زالت تتعامل مع الواقع الجديد بأدوات تحليل مفوّتة ولا علاقة لها بتحديات الحاضر ورهاناته. أما السلطة، فإنها قد وظفت “الطوفان” لاحتكار سردية مساندة محور المقاومة والتغطية على أزمة شرعيتها ومشروعيتها، دون أن تغير شيئا في علاقاتها بمحور التطبيع أو بفرنسا وسياساتها الاستعمارية الجديدة أو بوكلاء المشروع الصهيوني في تونس، خاصة في منظومة الاستعمار الداخلي.
ولعلّ أفضل من عبّر عن أزمة العقل السلطوي هو وزير التربية؛ الذي برر نسبة المشاركة في الاستشارة حول التعليم بتداعيات الحرب على غزة. فالسلطة التي لم تدفعها ملحمة غزة إلى تعديل خياراتها الكبرى داخليا وخارجيا، لم تتورع عن توظيف تلك الأحداث لتبرير نسبة المشاركة الضعيفة في الاستشارة، رغم أن نسبة الإقبال الشعبي كانت ضعيفة في كل المحطات التي رجع فيها النظام إلى الإرادة الشعبية في جميع مراحل “التأسيس الثوري الجديد” التي سبقت ملحمة المقاومة في غزة.