كتب سليم عزوز…
قبل الثورة المصرية وبعدها بقليل كنت كثيرا ما أشارك بالتعليق على الأحداث في قناة “العالم” الإيرانية، وحللت مرة ضيفا من الاستوديو الخاص بها في بيروت، على أحد البرامج الذي لا أتذكر اسمه الآن!
لكن في الثورة السورية انقطع الاتصال، إلا في اليوم التالي لتنحي مبارك، ولعلها كانت المرة الأخيرة، ففي بداية الثورة السورية تلقيت اتصالا من القوم للتعليق على ما يحدث، ولأني كنت أعلم موقف إيران وموقف القناة بالتبعية منها، فقد أخبرت من اتصل بي أنني مختلف معهم، ولا أعتقد أن قناتهم تحتمل هذا الاختلاف في قضية مهمة مثل الموقف من الثورة السورية، فأنتم ترون الحاصل في سوريا أعمالا تخريبية، بينما أنا أراها ثورة مكتملة الأركان، تمثل امتدادا للربيع العربي في تونس ومصر!
ومع هذا الانقطاع للتواصل، فقد كنت من المؤمنين بضرورة أن يحدث التقارب بين مصر الثورة وإيران، فلا معنى لاستمرار القطيعة، والتي كانت في عهد مبارك لأسباب تخص الموقف الأمريكي من إيران. وقد أخبرني الراحل مصطفى كامل مراد، رئيس حزب الأحرار، الذي كان يرى بأنه لا يجوز استمرار الخلاف بين بلدين كبيرين كمصر وإيران، أنه اقترح على الرئيس مبارك تشكيل وفد من رؤساء أحزاب المعارضة للذهاب لطهران، لكن مبارك علق بقوله: “الأمريكان يزعلوا” لأنهم سيعتقدون أنه وراء ذلك! فلما اقترح عليه أن يبلغ “الأمريكان” بأن الوفد من المعارضة، ولا سلطان له على حركة الأحزاب وفق النظام الديمقراطي، كان رد الرئيس: “هم يعرفون الزير وغطاه يا مصطفى”!
وبعيدا عن المذهبية، فأنا أرى أن الثورة الإيرانية كان ينبغي أن تكون ملهمة للشعوب، ودرسا في حسن الإدارة في إنهاء الخطر الذي تمثله الثورة المضادة، ولأننا شعوب بلا خبرة، فقد حال عدم التعلم من الخبرة الإيرانية دون نجاح الربيع العربي، الذي أصبح لقمة سائغة للثورات المضادة!
إعلاء المذهبية
ولا شك أن الذي حال دون اكتساب الخبرة واستلهام التجربة، ليس الموقف الرسمي من إيران، أو حتى الموقف الأمريكي، فقد كان يمكن لذلك أن يمثل قيمة مضافة في شعبية الثورة الإيرانية، لكن الذي وقف دون ذلك هو إعلاء المذهبية من الجانب الإيراني، الأمر الذي أعطى فرصة للخصم أن ينال منها. ومن هنا فإن قطيعة مبارك مع إيران لم تكن تلقى معارضة في الأوساط الشعبية، فلم تمكّن قناة “العالم” الناطقة باللغة العربية القوم من الوصول إلى شعوب المنطقة.
والذي مثل أكبر دعاية سيئة ضد الإيرانيين هو بروز التعصب المذهبي، عندما أرسلوا أضحية للعالم السني في صبيحة عيد الأضحى للمسلمين السنة، وكانت الأضحية هي رأس الرئيس العراقي الشهيد صدام حسين، فكان وصول “اصطلح الشيعة” للمواطن العربي البسيط مسكونا بهذا الفعل. ونال هذا التصرف من شعبية حسن نصر الله في العالم العربي، ولا أنسى كيف كانت صوره على زجاج السيارات بعد عام 2006، وفي جانب كبير منها كانت تحديا لنظام مبارك وتمردا عليه، وكان إعلامه لا يذكر حزب الله مجردا، فبدا الوصف جزءا من الاسم، فهو “حزب الله اللبناني الموالي لإيران”. وقد توقف ذكر العبارة بعد هذه المواجهة وهذه الشعبية الجارفة للرجل، وإن حاول الإعلام الرسمي التذكير بشيعيته، وكيف أن الشيعة يسبون الصحابة، ويحلون زواج المتعة، لكن لأن نصر الله بدا مترفعا على المذهبية، فلم تنل منه هذه الدعاية الخجولة من جانب إعلام السلطة. ولا ننسى أن وفدا من مؤسسة “الأهرام” برئاسة إبراهيم نافع، رئيس المؤسسة، زار حسن نصر الله ليحاوره، فشغلت أسئلة رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عبد المنعم سعيد؛ مساحة كبيرة من الحوار حول زواج المتعة، وكتب أحد الكتاب اللبنانيين مندهشا من ذلك، لكننا كنا نعرف “الزير وغطاه”!
إعدام صدام حسين
ولأن شعبية صدام حسين في يوم إعدامه كانت في السماء، فقد انتظر الناس من نصر الله أن يكون له رأي مختلف من جريمة إعدامه، تنفيذا لحكم صدر برعاية أمريكية، وفي يوم علت فيه المذهبية المقيتة من الطرف الآخر، لكنهم كانوا يكلفون الأمور ضد طباعهم، فانتهت شعبيته التي كان يمكن أن تمثل دعاية غير مباشرة لمذهبه في العالم العربي!
وقد كان لي موقف حاد تجاه مجمل السياسات الإيرانية، التي اعتبرت أن الاحتلال الأمريكي للعراق والقبض على زعيمه هي رمية لصالح طهران بغير رام، وقد مكّنت لرجالها في العراق أن يتصدروا المشهد ويتخطوا الرقاب، والبعض ليست لديهم مشكلة في أن يحكموا عبر الدبابات الأمريكية. ولم يكن الشيعة الموالين لإيران أمة من الناس، فمن بين أهل السنة والجماعة من فعلوا، ولم ينتبهوا إلى أنهم كانوا مطية للأهداف الإيرانية، وقد ظنوا أنهم سيكونون شركاء في الحكم.. نفس موقف إخوانهم في أفغانستان!
وكان السيستاني مرجعية منافسة لقم، ولكنه وقف مع الاحتلال الأجنبي لبلاده، وناله من هجومنا جانب، وقد فشل في أن يكون عنوانا وطنيا للشيعة العرب، وذات حلقة عنه كنت ضيفا على الهاتف مع قناة “المستقلة”، نشر صاحب القناة ومذيع البرنامج على الشاشة فتوى حديثة على موقعه تناولناها بالنقد، تكفّر نفرا من الصحابة، فتم حذفها بينما نحن على الهواء!
وبجانب ما سلف، فقد كنت من الذين دعوا الرئيس محمد مرسي للتقارب مع إيران، من باب تنوع الحلفاء، ولأن المحور السني معاد للربيع العربي ويعمل على هزيمته، وكان السلفيون يدقون طبول الحرب ضد أي فكرة للتقارب، ولو لفتح الباب للسياح الإيرانيين للقدوم لمصر، وكنت أرى أن السياحة الإيرانية وسيلة لفك الحصار المالي العربي على الحكم الجديد، وهي سياحة جاهزة، وبدت دعاية السلفيين في مصر توحي بأن مرور السائح الإيراني بجانب المواطن المصري كفيلا بنقل فيروس التشيع له.
وزار الرئيس الإيراني مصر، وعومل أسوأ معاملة، وكان السلفيون يبتزون الرئيس لكنه في المقابل لم تكن لديه أي رغبة في التقارب، أو خسارة السعودية بأي درجة، وهي إشكالية إخوانية تحتاج للفحص والدراسة، حتى والسعوديون طرف أصيل في إسقاط الرئيس محمد مرسي، وحتى وهم يحاصرون قطر بسبب الموقف من الإخوان؛ كسلطة حكم ومهاجرين، فكان بيان الإخوان هزيلا وهم يطلبون من “الأشقاء” رأب الصدع، وكأنهم طرف محايد، وكأنهم سويسرا.
إسقاط الرئيس
عندما أمِن المحور السني، بأبي أنت وأمي، مكر الإخوان، كان سهلا التخطيط لإسقاط حكمهم، ولقد كان الخليج يحب مبارك، لكن محمد مرسي لم يكن مبارك أو امتدادا له وإن بدأ دعايته الانتخابية بزيارة السفارة السعودية في القاهرة قبل أول مؤتمر انتخابي له؛ لأنه كان على مقربة من مقر السفارة (ميدان نهضة مصر)!
ولم يكن موقفي من الملف الإيراني متناقضا، لكني كنت أنزل الحكم الذي أراه صوابا على كل حالة على حدة، فلا حساب على الأعمال الكاملة، ولا يجوز للدول أن تتخذ قرارها على مجمل المواقف، ولهذا فالعقل المسلم البسيط لا يستوعب مثلا موقف أردوغان من الروس، وهو يتعامل في كل قضية على حدة، ليس لأنها السياسة وهي نجاسة ليرتاح العقل الكسول، فهذا من قواعد التدين، والإسلام يعرف المواقف المركبة لا البسيطة في بعض المواقف، لكن التدين الفارغ من المضمون هو الذي يصور لأهله أن الحياة أبيض أو أسود، وكأن الدين لم يعرف اللون الرمادي بدرجاته!
هنا “لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم”، وهنا “ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى”، وهنا وهناك “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”.. “ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا”!
الغضب من المقاومة
لقد شاهدنا موجة الغضب، عندما شكرت المقاومة الفلسطينية الموقفَ الإيراني، وموقف حزب الله، والحوثيين، وأوشك الغاضبون أن ينقلبوا على أعقابهم كافرين بالمقاومة، لأنهم لا يعترفون لهذه الجبهات بأنها فعلت شيئا على صعيد المواجهة، أو صعيد المساعدة للمقاومة، وأرادوا حسابهم على النوايا، فهم يفعلون لأنهم يريدون أن يغسلوا سمعتهم ويُدخلوا الغش والتدليس على الناس، لندخل في مجال الحكم على النوايا، وهو اتجاه لا يمت للدين بصلة، لكنه الانتصار للمذهب ولو بمخالفة قواعد الإسلام في التعامل مع الآخر، والله سبحانه وتعالى قال في وصف مجتمع الرسول: “منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة”، ولم يُشغل المسلمون الأوائل أنفسهم بمن المستهدفين بالخطاب القرآني إنهم يريدون الدنيا!
ولما كان الموقف من التقارب مع إيران في عهد الرئيس محمد مرسي ليس منزلا أنزله الله لهم، ولكنه الرأي والحرب والمكيدة، فهذا يسري على موقفهم الآن.
وإن تعجب فعجب قولهم إن المذكورين في خطاب القسام لم يقدموا شيئا للمقاومة، ثم يعتقد أحدهم أن من سلطته أن يستجوب قادة المقاومة ويسحب الثقة منهم وهو مستلق على ظهره في غرفة نومه، فيسأل ماذا قدمت إيران ومن معها؟ وكأن المطلوب منها أن تعد ملفا لتقديمه لهذا النائم المسترخي على سريره، وربما يتم إلزام المقاومة بنشر الملف في اثنتين من أوسع الصحف انتشارا.. أهذه ثقافة حروب، أم تصرف مخبر يريد أن يعرف المعلومة ليتضمنها تقريره لأجهزة الأمن؟!
إن السلالة التي ابتزت الرئيس محمد مرسي تحذيرا له من التقارب مع إيران، ولم يكن بحاجة لموقفها فلم تكن لديه رغبة في التقارب، هي نفسها من تشن حروب التتار على المقاومة لأنها شكرت طهران ومن حولها، في حين أنها لم تتأذّ مثلا من شكر قُدم للسلطة المصرية، التي تمتثل للإرادة الإسرائيلية بإغلاق المعبر، وهم أنفسهم لم يتأذوا عندما حدث التقارب الإيراني مع الانقلاب العسكري في بداية حكمه، وفتحت طهران أبوابها لاستقبال الوفود المصرية، وفدا عائدا ووفدا ذاهبا، ولم يجدوا غضاضة أيضا في التقارب السعودي الإيراني، وفي الاستقبال الودود لولي العهد السعودي للرئيس الإيراني مؤخرا، ولم يجدوا أنفسهم معنيين بتذكيره بالدور الإيراني في سوريا!
وقد أعطى هذا الدور بعدا أخلاقيا لمن يأخذون على المقاومة تقديمها للشكر للحلف الشيعي، وهو لمساعدته نظاما مجرما في سوريا في سحق المعارضة، وكان ولا يزال طرفا في هذه الجريمة!
وهنا لا بد من التذكير بأن المقاومة غادرت طرابلس في بداية الثورة، بدون طلب من القيادة السورية، لكن ليس من المنطق أنه في وسط سني معاد للمقاومة أن تكرر ما فعله الرئيس محمد مرسي، وما فعلته النهضة في تونس، وحزب الإصلاح في اليمن، من أن تلقي بكل إرادتها في سبيل التقارب مع من يتربص بها الدوائر، ثم يُجهز عليها، والنتيجة لا تخفى على أحد!
وليس من المنطق أن تكرر المقاومة خطأ ياسر عرفات الذي أخطأ في الحساب وانحاز لصدام حسين في غزو الكويت، فخسر الخليج والدول العربية المؤثرة بالتبعية، فلم يكن أمامه إلا أن يهرول إلى إسرائيل فليست أمامه خيارات أخرى، فيتنازل عن سلاحه، وتخسر القضية كثيرا بذلك، بل يخسر هو حياته!
تستطيع أن تدين موقف الحلف الشيعي من الثورة السورية، دون أن تنكر ما قدم على مستوى القضية الفلسطينية، أو أن تفرض وصاية على المقاومة في تحديد علاقتها وخلق التنوع!
فماذا قدمت سلفيتك للمقاومة.. وماذا قدم القادة العرب؟!
المصدر: عربي 21