كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
…وأخيراً، هرول أهلنا – النازحون النازفون – إلى قراهم، إلى القرى والبلدات التي سُمح لهم بالعودة إليها في الضاحية الجنوبية والبقاع وفي الجنوب ما قبل قبل الليطاني. حدث هذا البارحة في 27 تشرين الثاني 2024، بعد 18 عاماً على 14 آب 2006، أي بعد نحو 7000 يوم على نهار انتهت فيه حرب تموز التي انتهت بعبارة: لو كنت أعلم. الفاتورة أكبر. الدم الذي سال أكثر. و”الانتصار” الذي أتى – للأسف – أوهن من خيط العنكبوت. لا يهم. الأهم أن أهلنا لن يمكثوا في البرد القارس على قارعة النزوح. وهذا فقط، فقط هذا، جعلنا البارحة، ونحن نجول في التفاصيل المنكوبة، نبتسم.
قبل حين، قبل 18 عاماً، جُلنا أيضاً بحثاً عن حياة في تفاصيل حرب خلناها “الأعظم”. ويومها، أتذكر ما كتبت “ليس أصعب من أن يكون في الفم كلام كثير ولا يعرف المرء من أين يبدأ؟ وإذا بدأ أين ينتهي؟ وليس أسوأ من أن تفيض الأفكار ويجف الحبر في تفاصيل لم يعدْ فيها لا أخضر ولا يابس”، في قرى وبلدات زلزلت فيها الأرض، بين ليلة وضحاها، وفقد الحاضر، في كل الوطن كما في كل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، تألقه. جُمد هذا الحاضر وعُلق هذا الوطن وأسر المستقبل بسؤال عريض: ماذا بعد؟ ماذا بعد الرابع عشر من آب؟”.
مرّت السنون وكأنها ثوانٍ. أتى 18 تشرين 2023 ولحقه 23 أيلول 2024 ولحقهما 27 تشرين 2024… الصورة نفسها. النكبة زادت. ومبانٍ سُويّت في الأرض ومبانٍ أخرى تتكئ على بعضها وحجارة لا تحتاج إلا الى رياح بسيطة لتتساقط على الرؤوس مشكلة خطراً آخر. لا يهم. الناس لا يبالون. وكلّ ما يريدون هو التأكد من أن البيت ما زال قادراً على استيعابهم. لا يهم الزجاج المتناثر. لا تهم الأبواب المشلعة. البيت هو المكان الذي يبدأ منه المرء وهو المكان الذي يعود إليه. هو الأسرة. هو الدفء والأمان والعناق… لكن، كم من البيوت لن تجد من تعانقهم فيه.
إشارات النصر كثيرة. صور السيّد الشهيد توزّع. ويافطات عُلقت على عجل تضم رسم حسن نصرالله وعبارة تتكرر: “ولّى زمن الهزائم. جاء نصرالله”. المهدي قد عاد؟ الشعارات زمان – في 2006، كانت مختلفة “لك البيعة حسن نصرالله”. ووحدها رائحة الموت قوية في المرتين. وإن كان الكلام عن الموت والدمار وكل القهر غير مرغوب “لأنه استسلام”. نمشي بلا أسئلة لأن الأجوبة تتكرر ذاتها مقرونة بإشارات نصر “انتصرنا”.
هل لنا أن نسأل عن مفهوم النصر؟ سؤالٌ يحتمل التأجيل اليوم لكن، ألم يطرحه العائدون على أنفسهم؟ يافطة عُلقت في الضاحية، عند مفرق دُمرت كل تفاصيل الحياة على جانبيه “لبنان هزم إسرائيل”. الزجاج يُطقطق تحت الدواليب. وجرافات تنغل ورافعات تعبر “زيك زاك” ووزارة الأشغال جندت كل ما تملك في فتح الطرقات الرئيسية. وشاب يُخبر والدته عن انتصارات المقاومة فتسأله بفرحٍ: “علّمنا العدو المشحّر درساً لن ينساه”. نبتسم لها ونتابع. مبنى حلويات الإخلاص “صاغ سليم”. هُدد. أنذر لكنه يستمرّ قابلاً للحياة. لكن المبنيين أمامه ووراءه مشلعان. الحركة بعد الظهر أقل منها قبل الظهر. موكبٌ يمرّ بطيئاً في الجوار رافعاً صورتي الأستاذ والسيّد: نبيه بري وموسى الصدر. الأعلام كثيرة. نبيه بري دعا البارحة النازحين للعودة “ولو فوق الركام”. هذا ما كان فعله أيضاً قبل 18 عاماً “عودوا اليوم قبل الغدّ”. دردشات كثيرة بين العائدين محورها: الانتصار. نتركهم يتكلمون. فليفرحوا. معاناتهم كبيرة هائلة.
ما سلم من المحال “تورّمت” أبوابه. والناس يحاولون “لملمة” الذكريات. سجاد على الشرفات. عاد أهل بيوتها. نمشي في التفاصيل وفكرنا نحو: ماذا بعد 27 تشرين؟ ماذا بعد سنة وسنتين وعشر وثماني عشرة سنة؟
إنها الجلجلة التي تتكرر في لبناننا تحت عنوان “نحمي ونبني”. غريبةٌ هي الشعارات. اللون الأحمر صبغ أحد الأرصفة. نمشي بحذر. ثمة من قضى هنا. نرسم شارة الصليب ونردد: رحمه الله. يا الله على كل تفصيلٍ في انتصارٍ باهت خافت ضعيف واهن. لكن، ما لنا (الآن) ولمن يظنوا أنهم “انتصروا” لكن، ألم يحن لهؤلاء أن “يستيقظوا”؟ أهلنا متى يستيقظون؟
أطفالٌ يخرجون من الشبابيك يحملون بواريد مياه وشبان يرفعون رشاشات برصاصٍ حيّ… الفرح لا يكتمل لدى هؤلاء إلا بالرصاص؟ ماذا عن الحياة؟ ماذا عن الدولة؟ ماذا عن الغد القريب والأبعد؟ هل سيبقى مكتوباً على اللبنانيين عيش الانكسار بنكهة الانتصار؟ إنتصرتم. تطبيق القرارات الدولية إنتصار.