كتب أنطوان الأسمر في “اللواء”:
لم يكن مأمولا أو متوقّعا أن تحقّق زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان-إيف لودريان أكثر مما حققته، فالرسالة لا بدّ أن تُقرأ من العنوان. والعنوان لا لبس فيه: الفراغ المتأصل واللغو السياسي مُحكما الإغلاق في الحلقة المفرغة إياه، كأن المطلوب أن يبقى النقاش في جنس الملائكة هو الغالب، لئلا يُضطر الجميع إلى مواجهة لحظة الحقيقة وتوزيع المسؤوليات وتحمّلها. لذا ليس مستغربا، والحال هذه، أن ما يؤخر الإنتخاب ظاهرا، في أدبيات السياسة اللبنانية:
1-خلاف على التعبير: هل هو حوار أم تشاور؟! المفارقة أن لودريان اضطُرّ إلى أن يتلبنن حين غاص في هذه الجلبة، مستعينا بقاموس Le Robert ليشرح إلى من التقاهم الفارق بين الحوار، ترجمه على أنه negotiation، والتشاور consultation. مع ذلك لم يوفّق في حصد إجماع على الـ consultation.
2-وخلاف على الترتيب: من يدعو إلى الحوار أو التشاور، ومن يترأس؟ فرئيس مجلس النواب نبيه بري على إصراره قيادة أي جلسة حوارية أو تشاورية إنطلاقا مما يعتبره صلاحيات لصيقة برئاسة البرلمان، فيما المفارقة أنه سبق له أن منح كتلة الاعتدال الوطني الضوء الأخضر لمبادرتها، لا بل أعلن أنه هو قابلتها القانونية. ومعروف أن تلك المبادرة كانت تقوم فيما تقوم على أن تدعو الكتلة إلى الجلسة التشاورية، وأن يديرها أحد النواب الأعضاء فيها.
تأسيساً على هذه المشهدية المعقّدة، يبقى العنوان المحلي الأبرز هو استحالة حدوث أي تقدم، سواء في المسائل الرئاسية أو الإصلاحية أو التصحيحية، قبل أن تضع الحرب في غزة أوزارها وتتضح التغيّرات التي تتحضّر لكي تعصف بالمنطقة وتطيح سياسات وأنظمة، وربما حدودا.
ولا يُخفى أنه ما لم يبادر اللبنانيون إلى اغتنام الفرصة وانتخاب الرئيس العتيد مدخلا للإصلاح المعلّق، فإن الفراغ سيستمر وربما يمتد إلى ما بعد انتهاء ولاية المجلس النيابي سنة 2026. إذ إن قدرة الحكومة على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها تبدو لا يقينية بعد التمديدين للمجالس البلدية والاختيارية، ومع غياب رغبة فعلية لدى القوى السياسية والحزبية القابضة على السلطة التشريعية في تهيئة المناخ المناسب لهذا الاستحقاق. وما يضفي مزيدا من التعقيد أن ثمة من يسعى إلى إدخال تعديلات جذرية على قانون الانتخاب، تشمل، فيما تشمل، اعتماد صوتين تفضيليين بدل صوت واحد، الأمر الذي سيشوّه مفهوم النسبية ويقلل من صحة التمثيل.
لا ريب أن أي تعديل في قانون الانتخاب الساري يراه المسيحيون حطّاً من تمثيلهم وافتئاتاً على وجودهم السياسي، سينتج حتما ممانعة صلبة، مما يعقّد هو الآخر المشهد النيابي ويجعل الانتخابات التشريعية المقبلة في مهبّ الريح.
يُضاف إلى كل هذا التعقيد والتعثّر واقع أن العواصم المؤثّرة في الاتجاهات اللبنانية وضعت رئيس مجلس النواب في دائرة الاستهداف. ثمة ضغوط خارجية، أوروبية وأميركية، غير خفية تستخدم ما تيسّر من أوراق لجعله مضطراً إلى الدعوة إلى جلسات انتخاب متتالية. في المقابل، لا يقل ضغط حزب الله شأنا عن الضغط الخارجي، إذ لن يسهّل الحزب أي حوار أو انتخاب رئاسي ما لم يكن متيقّنا تماماً من النتيجة المسبقة لأي جلسة انتخابية. فالحزب لا يرغب بالتأكيد في السماح بمفاجآت في هذا الوقت الحرج. من هنا يتضح أن بري ليس في أفضل حالاته، وأن الضغوط الخارجية قد تصل إلى إجراءات عقابية مؤلمة. وليس تذكير السفراء الخمسة في بيانهم الأخير بإعلان الدوحة الصادر في تموز 2023 (يلوّح بعقوبات على المعطّلين) سوى جزء يسير من هذا الضغط الخارجي.
قبل أسبوعين، في 14 أيار، التقى بري وزيرة خارجية كندا ميلاني جولي. بادرته إلى القول: رجال السياسة يتقاسمهم مفهوما الـdeal -maker والـdeal- breaker. قد لا أعرف أي مفهوم تفضّل من الإثنين، لكني أخالك حريصا على أن تترك إرثا legacy حسنا. لذا لا أعتقد أنك تبغي إنهاء ولايتك على رأس هذا المجلس من دون انتخاب رئيس. لبنان في مرحلة حرجة بالغة الدقة، والاستقرار النسبي الذي تتوهمونه اليوم ليس سوى مصطنعا. ما أقوله الآن نابع من محبة للبنان، ولا غاية لنا سوى مصلحة اللبنانيين. أنت تعلم أن النزوح لا يؤرقنا خلافا لأوروبا، لا بل نحن بلد استقطاب اللاجئين، لذا أتكلّم بحرية ووضوح وبلا خلفية. والنصيحة التي أنقلها هي نصيحة خام، لا غاية ذاتية لها. إذهبوا إلى انتخاب الرئيس قبل فوات الأوان.