جيهان فوزي- صحيفة الوطن المصرية
هو كما غزة، صامدٌ كالصخر، يحمل أوجاعه فى قلبه ويدفنها بين ضلوعه، ينهض مع كل محاولة لكسره أشد وأقوى.
يواصل من حيث توقف، «وائل الدحدوح»، أسد غزة العنيد، كما أطلق عليه رواد السوشيال ميديا، يرفض الاستسلام، تلقى تهديداً بالقتل من جيش الاحتلال الإسرائيلى أكثر من مرة عبر قناة «الجزيرة»، التى حاولت بدورها إقناعه بمغادرة غزة عبر مصر إلى قطر، لأنه مستهدف، لكنه رفض رفضاً قاطعاً، وأصر على البقاء، فقامت إسرائيل باغتيال أربعة من أفراد عائلته، زوجته وابنه وابنته وحفيده، وبعد ذلك محاولة فعلية لاغتياله، نجا منها بأعجوبة، واستشهد فيها زميله المصور «سامر أبودقة» الذى ظل ينزف لأكثر من خمس ساعات.
فى كل مرة، ينهض «وائل» من كبوته متحاملاً على نفسه، يضغط على جرحه ويكمل المشوار، يحمل الميكروفون وينقل للعالم بشاعة ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلى فى قطاع غزة من جرائم بالكلمة والصورة، ليوثِّقها للتاريخ، بشجاعة وإصرار وثبات، شارك «وائل» فى تشييع جثمان «سامر» وهو مصاب، بالكاد يقف على قدميه يتلقى العزاء ولا ينهار، مثلما فعل مع أفراد أسرته.
عندما حمله المسعفون إلى المستشفى لم يحفل بنفسه، ولم يفكر فى إصابته، كان همه الوحيد إنقاذ «سامر»، يملأه الخوف والقلق على زميله، ظل يردد.. «أنقذوا سامر».. «سامر ما زال هناك».. «هاتوا سامر»، لكن «سامر» رحل.. الشاهد والشهيد، وبقيت الصورة، لتنشط الذاكرة بأنهما وُلِدا هنا وسيبقيان هنا ولن يرحلا.
«سامر» كان محبوباً من زملائه، معروفاً بخفة ظله حتى فى أحلك لحظات الحرب، لا ينام أكثر من 3 ساعات، كما قال فى لقطة مصورة، رفض اللحاق بعائلته المقيمة فى بلجيكا، وفضل البقاء والعمل فى غزة، وكان يفكر فى إعادتهم بعد انتهاء الحرب، لم يمهله القدر، الذى أعطى «وائل» عمراً آخر، ليأخذ فيه العزاء.
«وائل» مثل الآلاف فى غزة، الذين ذاقوا مرارة الفقد، وظلوا على يقينهم، وإيمانهم بعدالة قضيتهم، لم تُثنِهم أوجاع فراق أحبتهم عن الصبر والصمود، فى مواجهة أكبر كارثة إنسانية فى تاريخ البشرية. إسرائيل تتفنن فى صناعة «الموت»، وتتلذذ بمراقبة «ضحاياه»، دولة سادية عنصرية متطرفة، أكثر من 97 صحفياً ارتقوا خلال 70 يوماً من الحرب! أو استشهد ذووهم، مثل مراسل الجزيرة «أنس الشريف» الذى تلقى تهديداً بالقتل إن لم يتوقف عن بث تقاريره عن المجازر التى يرتكبها جيش الاحتلال، فلم يتوقف!
وكانت النتيجة قصف منزله واستشهاد والده، لم ينسحب «أنس» من الميدان، ودّع والده، وعاد لينقل الصورة غير مكترث بتهديد جيش الاحتلال، كذلك المراسل الصحفى «مؤمن الشرافى» الذى فقد 22 من عائلته، بمن فيهم والده ووالدته وبعض أشقائه وأولادهم، والصحفى عادل زغرب، الذى وثّق شهادته حول المجازر البشعة التى يرتكبها الجنود بحق الأطفال والنساء أمام كاميرات المراسلين، فقصف الاحتلال منزله قبل يومين واستشهد، كذلك مراسلة قناة TRT التى قضت نحبها فى قصف منزلها فى خان يونس، وغيرهم كثيرون، أراد الاحتلال الغاشم إسكات أصواتهم فلم يفلح.
هل من الممكن اعتياد الموت إلى هذا الحد؟! من أين أتوا بهذا الثبات وتلك الشجاعة فى مواجهة الموت؟ فجأة يفقدون أغلى ما لديهم: عائلاتهم، آباءهم، أمهاتهم، أشقاءهم، شقيقاتهم، أصدقاءهم، جيرانهم، الكل تحول إلى مشروع شهيد، ثم «شهيد يودع شهيداً»، إن ما يثير العجب والإعجاب معاً هذا الجلد المحفور فى ملامح الوجوه، تماماً كالنقش على الحجر، يقارعون الحياة ويصاحبون الموت!
إنه إعجاز هذا الجيل الذى جُبل على الحرب، ورضع الشقاء، وتأقلم مع فكرة الموت والفقد. لن أنسى مشهد السيدة التى فقدت جميع أطفالها، وهى تقف محتضنة جثة أحدهم يعتصرها الألم وتناجى الله وهى تبكى وتقول: «المهم تكون راضى يا رب»!.
إقرأ أيضاً: مدير يدعي الألوهية في الشوف
غزة أثخنتها الجراح، وأجهدها الجوع، وأوجعها الخذلان، لكنها صابرة، مرابطة، مرفوعة الرأس، عصيّة على الانكسار، ولم يقتلها اليأس، جحافل الجنود وأسلحة العدو الصهيونى الأكثر فتكاً وتطوراً فى العالم، تحاول دهس كبريائها، لكنها صامدة!
فمن ينقذها من براثن المؤامرة التى تحاك ضدها فى الغرف المغلقة؟ وحدها تقف شامخة فى وجه العدوان بعزيمة رجالها، وشجاعة نسائها، ورباطة جأش أطفالها، وثبات شيوخها، وبسالة وإيمان مقاومتها بعدالة قضيتها، تنهض من وسط الركام والدمار، تضمد جراحها النازفة، تطلق صرخات الاستغاثة برب العباد، «الله أكبر» مع كل تفجير آلية عسكرية للعدو، أو قنص جنوده، أو صاروخ يحط رحاله فى قلب تل أبيب، فيقض مضجع العابثين بمصير هذا الشعب الأبىّ، فما زالت الحرب على أشدها، وما زالت المقاومة صامدة، لم تتراجع قدراتها العسكرية، ولم تهن عزيمتها، أما العبرة، فهى بالخواتيم.