في الوقت الذي تتزايد عزلة إسرائيل دوليا بسبب عدوانها المستمر على غزة، بدأ الخلاف بين واشنطن وتل أبيب يخرج للعلن، فما أبرز أسباب هذا الخلاف؟
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت، الثلاثاء 12 ديسمبر/ كانون الأول، قرارا جديدا يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وجاء التصويت لصالح القرار غير الملزم بألغبية ساحقة تعكس مدى العزلة الدبلوماسية المتزايدة التي تعاني منها إسرائيل.
وفي اليوم نفسه، شن الرئيس الأمريكي جو بايدن انتقادات علنية حادة لإسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، محذرا من أن الدعم الدولي للحرب على غزة “يتآكل” بسرعة، وهو تحول لافت في موقف ساكن البيت الأبيض، أبرز الداعمين للاحتلال منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
تحول في موقف بايدن
بعد أكثر من شهرين من عدوان الجيش الإسرائيلي، المدعوم أمريكيا وغربيا، على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس، لا يزال عاجزا عن تحرير الأسرى أو تحقيق انتصار أي شكل من أشكال الانتصار العسكري للتغطية على هزيمته المستمرة منذ عملية “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ومنذ اللحظة الأولى لبداية العدوان، أعلن جو بايدن دعمه المطلق لإسرائيل وتولى الترويج لروايتها المضللة بشأن الحرب في غزة، ووصل تبني الرئيس الأمريكي الرواية الإسرائيلية بحذافيرها إلى حد التشكيك في أعداد شهداء القصف الهمجي لقطاع غزة.
لكن مع مرور الوقت، بدأ لهجة الخطاب الأمريكي تجاه العدوان الإسرائيلي تتغير بشكل لافت دون أن يتغير مستوى الدعم العسكري واللوجستي، وهو ما يشير إلى أن الخلاف بين الحليفين لا يتعلق بأهداف العدوان المعلنة وإنما بطريقة تنفيذها على الأرجح.
لكن في جميع الأحول، ومن خلال تطور الأحداث، يمكن رصد تصاعد الخلافات بين تل أبيب وواشنطن وخروج تلك الخلافات من الغرف المغلقة إلى العلن، وبخاصة في هذا التوقيت، للوقوف على أبرز أسباب الخلاف بين الجانبين.
تآكل “مصداقية” أمريكا على المسرح العالمي
تسبب الموقف الأمريكي الداعم بشكل مطلق لإسرائيل وعدوانها الغاشم على قطاع غزة في الإضرار بمصداقية الولايات المتحدة كقوة عظمى ترفع شعارات احترام القانون الدولي في العلاقات بين الدول. ففي البداية رفعت إدارة جو بايدن شعار أن إسرائيل تمتلك “حق الدفاع عن النفس”، لكن هذا الشعار، بحسب القانون الدولي لا ينطبق على دولة محتلة تمارس جميع أنواع القمع بحق الشعب الفلسطيني المحتل.
الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل جاء أيضا مناقضا بشكل صارخ لموقفها من الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة تهدف إلى حماية الأمن القومي الروسي” بينما يصفه الغرب بأنه “غزو عدواني غير مبرر”. ففي الوقت الذي حشدت فيه إدارة بايدن دعما غربيا كاسحا لأوكرانيا في وجه ما تصفه بأنه “احتلال” روسي لأوكرانيا، وفرت الإدارة نفسها وحلفائها جميع سبل الدعم المادي والعسكري واللوجستي والسياسي والإعلامي للاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على غزة.
تسبب هذا التناقض في الموقف الأمريكي من العدوان الإسرائيلي على فقدان الموقف الأمريكي الدعم من الجنوب العالمي بصورة غير مسبوقة، وتجلى ذلك في التصويت لوقف الحرب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي جاء في المرة الأولى بأغلبية 121 صوتا، لكنه جاء في المرة الثانية، الثلاثاء 12 ديسمبر/ كانون الأول، بأغلبية 151 صوتا، في مؤشر لافت على عزلة إسرائيل الدبلوماسية عالميا، وهو ما ينعكس بالضرورة على الموقف الدبلوماسي الأمريكي كذلك.
وعلى الأرجح تفسر هذه العزلة المتزايدة خروج انتقادات بايدن لنتنياهو من الغرف المغلقة إلى العلن. فقد حذر بايدن من أن إسرائيل تخسر الدعم العالمي بسبب عدوانها على غزة. تصريحات بايدن الثلاثاء 12 ديسمبر/ كانون الأول جاءت خلال حفل لجمع التبرعات لحملته الانتخابية في أحد فنادق واشنطن العاصمة، حيث قال للحضور: “بيبي أمام قرار صعب عليه اتخاذه”، في إشارة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بحسب تقرير لشبكة Foxnews الأمريكية.
ومن المهم هنا ذكر أن إسرائيل تتعرض لإدانات دولية شديدة ومتصاعدة بسبب ما يتسبب فيه عدوانها من سقوط الاف الضحايا المدنيين في غزة، أغلبهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى التدمير الكامل للبنية التحتية المدنية وتدمير أكثر من المباني السكنية، لكن الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل والرافض لوقف إطلاق النار لا يزال على حاله.
وكانت واشنطن قد استخدمت، الجمعة 8 ديسمبر/ كانون الأول، حق الفيتو لمنع إقرار مجلس الأمن الدولي مشروعا بهذا المعنى، وذلك للمرة الثانية منذ بداية العدوان.
علاقة الانتخابات الأمريكية بموقف بايدن
أما السبب الآخر لتوقيت بروز الخلافات بين أمريكا وإسرائيل على السطح فهو يتلعق بشكل مباشر بالانتخابات الأمريكية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، والتي يواجه فيها بايدن تحديا كبيرا للفوز بفترة رئاسية ثانية.
إذ تسبب الدعم الأمريكي للعدوان الإسرائيلي في انقسام حاد داخل المجتمع الأمريكي، وانعكس هذا الانقسام على إدارة بايدن الديمقراطية نفسها، حيث تقدم مسؤول كبير في وزارة الخارجية باستقالته احتجاجا على موقف بايدن، كما عبر الاف من العاملين في الحكومة والهيئات الفيدرالية على معارضتهم للدعم الأمريكي لإسرائيل.
وعلى المستوى الانتخابي، أظهرت استطلاعات الرأي تراجعا حادا في شعبية بايدن مقابل المرشح الجمهوري الأبرز، الرئيس السابق دونالد ترامب. لكن حتى استطلاعات الرأي بين الدمقراطيين أظهرت تراجعا في شعبية بايدن بين الناخبين الشباب بسبب موقفه الداعم لإسرائيل.
لكن يظل بايدن حريصا على إظهار دعمه المطلق لإسرائيل وفي الوقت نفسه يسعى إلى التراجع خطوات للوراء في دعمه لحكومتها التي توصف بأنها الأكثر تطرفا على الإطلاق.
وتحدث بايدن خلال الفعالية الانتخابية عن تلك النقطة بشكل مباشر، حيث قال للحضور: “هذه هي الحكومة الأكثر محافظة في تاريخ إسرائيل”، مشيرًا إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية “لا تريد حل الدولتين”، وأوضح بايدن أنه من أجل تجنب تحول في الرأي العالمي ضد إسرائيل، فإن نتنياهو “يتعين عليه أن يتغير. هناك الكثير يجب القيام به وعلينا أن نكون مؤيدين بقوة لإسرائيل”.
وربما تكون هذه التصريحات هي الانتقادات الأكثر علانية التي يوجهها بايدن لنتنياهو وحكومته منذ بداية العدوان الذي دخل شهره الثالث، على الرغم من أن القصف العشوائي واستهداف المدنيين في غزة قد بدأ منذ اليوم الأول وأثار غضبا عالميا عارما.
ومن المقرر الآن أن يصل مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، جيك سوليفان، إسرائيل هذا الأسبوع، وقال بايدن إن سوليفان سيؤكد على التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل وكذلك الحاجة إلى حماية أرواح المدنيين في غزة.
وفي السياق نفسه، يعتبر وجود أسرى يحملون الجنسية الأمريكية لدى المقاومة الفلسطينية في القطاع سببا آخر من أسباب الخلاف الأمريكي الإسرائيلي، إذ كان تسعى واشنطن إلى استمرار هدنة تبادل الأسرى التي استمرت لمدة أسبوع لكن إسرائيل كسرتها واستأنفت عدوانها على القطاع. والتقى بايدن مساء الثلاثاء للمرة الأولى بعائلات الأسرى ووعد بالعمل على إعادتهم سالمين. وإذا ما استمر العدوان الإسرائيلي كما يحدث الآن ربما لا يتمكن بايدن من تحقيق هذا الوعد.
الخلاصة هنا هي أن الغضب الشعبي العارم في المنطقة وحول العالم وفي الداخل الأمريكي نفسه بدأ يدق ناقوس الخطر بالنسبة للرئيس الأمريكي العجوز، الذي تنتظره انتخابات شرسة للغاية بعد أقل من عام يريد من خلالها الظفر بفترة رئاسية ثانية.
وتعالت الأصوات داخل أروقة الإدارة الأمريكية نفسها مطالبة بموقف أمريكي “أكثر توازناً”، واستقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية وقدم موظفون في الوزارة اعتراضات علنية على الانحياز الأعمى لإسرائيل والتغاضي عما ترتكبه من جرائم “عقاب جماعي” واستهداف متعمد ومتكرر للمدنيين في قطاع غزة.
وهكذا بدأ البيت الأبيض، الذي تشير التقارير الإعلامية والتصريحات العلنية لكبار المسؤولين فيه إلى أن أمريكا توجه انتقادات لإسرائيل خلف الأبواب المغلقة، في الحديث علناً عما وصفه تقرير لصحيفة The Daily Telegraph البريطانية بأنه “إحباط أمريكي من نتنياهو”.
لكن إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب على غزة مهما كانت التكلفة يبدو وكأنه بدأ يفقد حليفه جو بايدن، المحاصر بالضغوط داخلياً وخارجياً، صبره.
المصدر: عربي بوست