كتب محمد السماك…
خلال الحرب العالمية الثانية ضاق أدولف هتلر ذرعاً باليهود بعد فشل عدّة محاولات لليّ ذراعهم ماليّاً واقتصادياً. فاعتمد “الحلّ الأخير”، وهو التصفية الجماعية. بعد الحرب التي انتهت بهزيمة ألمانيا وانتحار هتلر، ذهل العالم من فظاعة ما ارتكبته القوات النازية تحت شعار “الحلّ الأخير”. لم تكن هناك كلمة تصفها. حتى إنّ الرئيس البريطاني في ذلك الوقت ونستون تشرشل قال إنّها “الجريمة التي لا اسم لها”. ولكنّ كاتباً بولندياً يهودياً يُدعى رافائيل لميكيف وجد لها الاسم. وهو الإبادة. وهو ما يجري اليوم في قطاع غزة على يد أحفاد المهاجرين اليهود الذين نجوا من “الحلّ الأخير”.
في عام 1946 جرت محاكمة 24 من زعماء النازية أمام محكمة نورمبرغ بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بما في ذلك الاستعباد والاغتيال والتصفية الجسدية والتآمر، إلخ.. بعد ذلك مباشرة أقرّت الأمم المتحدة وثيقتين في وقت واحد. الأولى تتعلّق بجريمة الإبادة الجماعية. وتتعلّق الثانية بحقوق الإنسان. ولكنّ ذلك لم يغيّر من الأمر شيئاً. وقّع ستالين باسم الاتحاد السوفيتي على الوثيقتين، ولكنّه استمرّ في سياسته الدموية. انكفأت الولايات المتحدة خوفاً من اتّهامها بإبادة السكّان الأصليين من الهنود الحمر وسواهم في القرن التاسع عشر، ولذلك لم تُبرم الاتفاقية الدولية إلا في التاسع من كانون الأول من عام 1988. وحتى بريطانيا تأخّرت في إقرار المعاهدة حتى عام 1970 خوفاً من أن تنعكس على المستعمرات التي كانت لا تزال تحتلّها في ذلك الوقت. أمّا الآن فإنّ عدد الدول التي أقرّت المعاهدة الدولية ضدّ الإبادة وصل إلى 149 دولة، بما فيها إسرائيل.
جريمة ترتكبها دولة
من هنا تبدو فداحة الجريمة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة. فالجريمة تُرتكب بأيدي “دولة” ملتزمة بمعاهدة ضدّ الإبادة، وقامت أساساً على أنّ شعبها كان ضحيّة الإبادة التي تعرّض لها يهود ألمانيا على يد النازيّة.
تصف الأمم المتحدة “حرب الإبادة بأنّها الحرب التي تستهدف التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة وطنية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”. وما تعرّضت وتتعرّض له غزة هو تدمير كلّي وطني وإثني وعنصري وديني. وقبل أن يتعرّض فلسطينيو غزة لجريمة الإبادة التي يتعرّضون لها الآن، عرف العالم جرائم عديدة مماثلة. كان المسلمون الروهنغا ضحايا قوات جيش ميانمار، وقد قُتل منهم عشرات الآلاف منذ عام 2017، وهُجّروا من بلادهم بالقوة العسكرية نحو بنغلادش وتايلند بعد إحراق وتدمير بيوتهم وقراهم.
هل يحاكم نتانياهو؟
قبل ذلك عرف العالم أيضاً جرائم جماعات “الخمير الحمر” بقيادة “بول بوت” في كمبوديا التي قتلت ما لا يقلّ عن مليون ونصف (ربع السكّان). وعرف العالم أيضاً في عام 1972 حرب الإبادة في بوروندي في إفريقيا، ثمّ في عام 1994 في رواندا الحرب بين قبائل التوتسي والهيتو التي أودت بحياة نصف مليون إنسان. كما عرف حرب إبادة في غواتيمالا (أميركا الجنوبية) حيث قتلت قوات الجيش ستّين ألف مواطن في حرب أهلية انفجرت في الثمانينيات. وفي عام 1995 عرفت أوروبا حرب إبادة في يوغسلافيا السابقة كان ضحيّتها مسلمي البوسنة على يد القوات الصربية (مجزرة سيبرنيتشا).
حتى في عالمنا العربي تعرّض الأكراد في شمال العراق لما يشبه حرب إبادة في عام 1988، حين قتل منهم مئة ألف على يد القوات العراقية. وعندما انفلت زمام حركات التطرّف الديني استهدفت عمليات الإبادة أقليات دينية في العراق وسورية. وقبل ذلك في جنوب السودان وشرقه (دارفور). غير أنّ مواقف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي كانت تحدّد مواقفها من هذه الجرائم ضدّ الإنسانية على قاعدة حسابات مصالحها وتحالفاتها، وليس على قاعدة القيم الأخلاقية والإنسانية التي أملت صياغة وإقرار الوثيقة الدولية ضدّ الإبادة الجماعية. مع ذلك عرف العالم محاكمات ناجحة لعدد من المتّهمين بارتكاب هذه الجرائم أو التحريض عليها، كان أوّلهم رئيس رواندا (جان بول أوكابوسو) الذي أدين في عام 1998، وتلاه الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الذي أُدين في عام 1999 ومات في السجن. وكانت محكمة الجنايات الدولية قد أُنشئت في عام 2002 من أجل هذه الغاية. وقد حكمت بالفعل على الرئيس السوداني السابق، المعتقل الآن بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في دارفور في السودان. فهل تبادر هذه المحكمة الدولية إلى محاكمة بنيامين نتانياهو على جريمة مماثلة، بل أبشع منها، يرتكبها اليوم في غزة؟