كتب المحامي د. أحمد مكداش
في ٣٠ تشرين الثاني ٢٠٢٢ صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولأول مرة في تاريخ هذه المنظمة، بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين في ١٥ أيار ٢٠٢٣، بأغلبية ٩٠ صوتاً مؤيّداً مقابل ٣٠ صوتاً معارضاً وامتناع ٤٧ عضواً عن التصويت.
القرار الذي واجه معارضة رئيسية من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل، أعاد في حينه التذكير بأزمة اللاجئين الفلسطينيين الذين قاربت أعدادهم الستة ملايين لاجئ مسجلين لدى الأونروا، مع استمرار تجدّد النزاع والحروب ودوائر العنف والإرهاب الصهيوني والاحتلال الخانق الذي يرزح تحته الشعب الفلسطيني منذ عشرات السنين، من نكبة العام ١٩٤٨ التي نتج عنها طرد وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين من ديارهم وتحويلهم إلى لاجئين، وتدمير مئات القرى والمدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية، مروراً بحرب الأيام الستة في العام ١٩٦٧ وعمليات التطهير العرقي وتهجير ثلاثمائة ألف فلسطيني من أراضيهم. وقد اغتالت «منظمة ليهي» التي استعملت اسم «جبهة أرض الأجداد» الوسيط الأممي «فولك برنادوت» في سنة ١٩٤٨ بعد يوم واحد على وضع خطته التي تضمنت قوله: «سيكون مما يتنافى مع مبادئ العدالة الأساسية أن يحرم هؤلاء الضحايا البريئون من حق العودة إلى بيوتهم بينما يسمح للمهاجرين اليهود بالتدفق إلى فلسطين». ولم تشفع للدبلوماسي السويدي لدى عصابات الصهاينة وحكومتهم التي اكتفت بالتعبير عن الأسف، تمكنه سابقاً من إنقاذ ثلاثين ألف يهودي من معسكرات الموت الألمانية.
بعد ذلك استمرت حروب الإبادة الإسرائيلية والجرائم ضد الإنسانية قبل وبعد اتفاقيات أوسلو التي وقعت في ١٣ أيلول ١٩٩٣ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى العمليات والحروب الإسرائيلية على قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية منذ انسحابها من القطاع في العام ٢٠٠٥ وسيطرة حركة حماس عليه بعد الإنقلاب والحرب التي شنّتها حماس على حركة فتح في منتصف حزيران العام ٢٠٠٧، وانحسار سلطة منظمة التحرير الفلسطينية إلى جزء من الأراضي في الضفة الغربية.
للأسف كان هذا فصلاً من فصول الاقتتال والانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وهو مما لا تتحمّله أو تطيقه القضية الفلسطينية بأبعادها التاريخية والإنسانية في ظل جموح العالم ومؤسساته الدولية الفاعلة نحو التغاضي أو عدم القدرة على وقف جرائم الكيان الصهيوني وإرهابه الممنهج ضد الإنسان والتراث والحضارة والمقدسات الدينية وكافة الحقوق الفلسطينية، وفي جحيم عدم التزام الصهاينة بقرارات الشرعية الدولية منذ ٧٥ عاماً، وهو ما لم يعد جائزاً بالمطلق من استمرار الفتنة والصراع الداخلي بين الأخوة الفلسطينيين وغياب الحد الأدنى من الوحدة الوطنية بينما تستعر الحرب الإنتقامية والإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال بحق المدنيين والنساء والاطفال والشيوخ، ويُحكم الحصار والتجويع، وتُدمّر المستشفيات والمدارس والأفران وكافة المرافق الحيوية والبنى التحتية بعد عملية طوفان الأقصى التي زلزلت كيان العدو وأمن إسرائيل في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣. وقد وصل عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي بحسب وزارة الصحة الوطنية بغزة ١٧٧٠٠ شهيد و٤٨٧٨٠ جريحا، وذلك حتى مساء يوم السبت ٩ كانون الأول ٢٠٢٣. ولذلك تصبح ضرورة وحدة الموقف الفلسطيني لوقف شلال الدم الرهيب من بديهيات ومسلمّات الأمور مع إحاطتها بموقف عربي وإسلامي يتجاوز كل الخلافات السابقة، وما يشعر به الفرد الفلسطيني البسيط، والشعب الصابر والصامد في أرضه فوق الركام وصحراء الوطن المستباح والسليب، من خذلان الذات والأخوة وأعضاء المجتمع الدولي وهيئة الأمم، ويرسم خارطة طريق جديدة لتحقيق السلام العادل والشامل وفق المبادرة العربية للسلام التي تم الإعلان عنها في قمة بيروت العربية في ٢٠٠٢، ومقررات القمة العربية الإسلامية المشتركة في الرياض في ٢٠٢٣.
ويبقى واجباً على الدول العربية والإسلامية تصعيد مواقفها تجاه تعنّت الإسرائيلي أمام موجبات السلام والالتزام بالقرارات الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وصولاً إلى اتخاذ قرارات فردية وجماعية ملزمة في كل ما يتعلق بالعلاقات أو المفاوضات المباشرة او غير المباشرة مع إسرائيل، وإدانة الموقف الأميركي في دعم وتغطية المذبحة غير المسبوقة والمجازر بحق الأبرياء والمدنيين العزّل، والذي من شأنه تهديد المصالح الأميركية في دول الخليج والمنطقة. وهو الرد العملي على فجور حق الفيتو الأميركي المانع لاتخاذ مجلس الأمن لأي قرار يدين جرائم إسرائيل ويفرض عليها وقف إطلاق النار على غرار مشروع القرار الإماراتي الذي تم التصويت عليه بناءً على تفعيل الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» للمادة ٩٩ من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز له أن ينبّه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها تهدّد حفظ السلم والأمن الدوليين. وحيث وافقت ١٣ دولة من أصل ١٥ عضواً في مجلس الأمن على مشروع القرار، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت، وعارضته الولايات المتحدة الأميركية مستخدمةً لحق النقض اللاإنساني والذي يجعل من واشنطن شريكةً مع حكومة السيوف الحديدية (المجنونة) في إسرائيل في تحمّل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
بعد نكبة ١٥ أيار ١٩٤٨ بأشهر قليلة، تم اعتماد «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في باريس بتاريخ ١٠ كانون الأول ١٩٤٨، وكان بمثابة الاعتراف بالكرامة المتأصلة وبالحقوق المتساوية لجميع البشر، وأساساً قانونياً وأخلاقياً تقوم عليه مبادئ الحرية والعدل والسلام في العالم، وأملاً بوضع حد للاستبداد والظلم، ولكافة الأعمال الهمجية التي تهز ضمير البشرية. أشهرٌ قليلة تلتها سنوات طويلة من الظلم للشعب الفلسطيني وافتراس حقوقه بلا رحمة، والقتل والتعذيب والاضطهاد والتمييز العنصري والعدوان على المقدسات، والأسر والاعتقال التعسفي والحصار والتجويع، ومنع المساعدات الإنسانية والطبية، والتطهير العرقي والتهجير القسري والابادة الجماعية، واغتيال الحياة ثم اغتيالها مرةً ثانية ومرّات، وسحق الطفولة والكرامة الإنسانية. ثم إذا تكلم السيد غوتيريش لينبّه العالم إلى مسؤولياته في وقف إطلاق النار الإنساني في غزة وحفظ السلم والأمن الدوليين، بعد سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين، طالبته إسرائيل بالاستقالة وخرج وزير خارجيتها «إيلي كوهين» ليقول: «إن فترة ولاية غوتيريش تشكّل خطراً على السلم العالمي». وإذا قال غوتيريش أن غزة قد تحوّلت إلى مقبرة للأطفال والفتيان والفتيات، هاجمه مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة «جلعاد إردان» واتهمه بفقدان بوصلته الأخلاقية وبعدم جدارته للبقاء في منصبه لدقيقة واحدة بسبب تعفنه الأخلاقي وإجرائه مقارنة زائفة بين أعمال حماس التي وصفها جلعاد بالمنظمة الإرهابية الوحشية وأعمال دولة ديمقراطية تحترم القانون! وعاد الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون إلى دعم إسرائيل وحقها المزعوم في الدفاع عن نفسها بينما هي تمارس أبشع انواع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة والإرهاب الممنهج لتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته وكرامته، وإخراجه من أرضه، وهو الشعب الراسخ في جذوره، العظيم بإيمانه وإرادته، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة، ٥١].
العام ١٩٤٨ كان عام نكبة فلسطين، وللمفارقة كان عام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما العام ٢٠٢٣ فهو عام تكرار النكبة لشعب فلسطين بمآسٍ أكبر وجحيم ممتد على ما تبقّى من مساحة أرض لم تعد صالحة للحياة، وأجساد تسكن في العراء، وإنه لعام يستحق أن يُطلق عليه بعد كل هذه الوحشية والهمجية والعدوانية المطلقة ضد المدنيين وأصحاب الحق والأرض، عام نكبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
المصدر: اللواء