كتب رضوان السيد…
كلّما طلبت جهات عربية أو أوروبيّة من الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار ولو لأسباب إنسانية، يُقبل الأميركيون، وبخاصةٍ بلينكن من بينهم، على شرح “الأسباب العقلانية” للضروريّات الإسرائيلية في استمرار الحرب لعدّة أسابيع أو أشهر. وأوّل هذه الأسباب أنّ إسرائيل تعرّضت في هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) لصدمةٍ هائلةٍ تهدّدُ حاضرها ومستقبلها. ولذلك فإنّ حملتها العسكرية منذ شهرين ليست للقضاء على حماس فقط، بل ولاستعادة الثقة بالجيش والأجهزة الأمنيّة والإدارة الحكومية، وإن لم يحصل ذلك في المدى القصير فسيهاجر نصف الإسرائيليين، وبخاصّةٍ أنّ الخطر لا يأتي من غزة فقط، بل من ناحية جنوب لبنان أيضاً. فحوالى خُمس سكان إسرائيل الآن قد غادروا مساكنهم وأحياناً مناطقهم إمّا لأنّها تخرّبت أو لأنّها تتعرّض للقصف. فحتى عسقلان، وليست مستعمرات غلاف غزة فقط، غادرها سكّانها. بيد أنّ أمر الشكّ في المستقبل يتجاوز قصة الفشل في مواجهة حملة حماس، إلى الشكّ في قدرات الجيش. فمنذ اللحظة الأولى يبدو الأميركيون مشاركين بالمباشر، ومن المشكوك فيه أن يكون الإسرائيليون قد انفردوا في الحروب السابقة بدليل أنّهم يرتاعون في البدايات ثمّ ينتصرون في النهايات بسبب التدخّل الأميركي الصاعق في كلّ الحروب لمصلحتهم. وبالطبع لا يعترف بلينكن بذلك، لكنّه يريد السماح للإسرائيليين بتجربة استعادة الثقة أو استعادة ثقة المواطنين (وثلثاهم يحملون جنسيات أخرى) بجيشهم ودولتهم إذا كان ذلك ممكناً.
الأميركيون صامدون.. حماس صامدة
لكنّ بلينكن وآخرين لا يكتمون استغرابهم لصمود حماس على الرغم من خسائرها الكبيرة. ذلك أنّ هذا الصمود يعني إطالة أمد الحرب على حساب المدنيين، وعلى حساب الأونروا والمستشفيات والمرافق الأخرى التي يلجأون إليها وسط الجوع والبرد وفقد الأمل والرجاء. إنّما كيف سينتهي الأمر أو ما الذي “يبشّر” بالانتصار واستعادة الثقة؟ هل رؤية مَقاتل قادة حماس أم إعلان استسلامها أم تسليم المحتجزين؟ يرى بلينكن أنّ تسليم المحتجزين أو البدء بذلك يمكن أن يجلب هُدَناً إنسانية، وأمّا وقف النار حقّاً فلا يكون إلّا بالاستسلام ومقتل القادة.
لماذا فشلت إسرائيل في حروبها السابقة على غزة وحماس في حلّ مشكلة حماس؟ يقول الأميركيون: لأنّ المقصود ما كان إنهاء حماس بل إضعافها مع زيادة شعبيّتها ليتصاعد صراعها مع سلطة أبي مازن. بيد أنّ الأخطر أنّه خلال السنوات العشر بل العشرين، أي منذ صعود شارون قبل نتانياهو، كان الأميركيون بعد المسؤولين الإسرائيليين قد صرفوا النظر عن أوسلو ومقتضياتها، واعتبروا (معاً) أنّه بوفاة عرفات والانقسام الفلسطيني وتحييد غزة بالانسحاب منها ومحاصرتها، توشك القضية الفلسطينية أن تنتهي، والدليل على هذا الأمل تقديم الانسحاب من غزة على إصلاح العلاقة مع أبي مازن ودعمه لسحب الريح من أشرعة حماس. هي زيادة الثقة لدى المسؤولين السياسيين الإسرائيليين على الأقلّ بأنّه يمكن إنهاء القضية الفلسطينية بهذه الطريقة. والطريف، كما يقول جنرالات أميركيون متقاعدون، أنّ العسكر الإسرائيلي صدّق مقولة تفوّقه الساحق على الرغم من حرب عام 2006 مع الحزب بلبنان. الحزب وهو ليس صاحب القضية قاتل بهذه الشراسة، فلماذا لا تظهر تنظيمات فلسطينية في غزة أو غيرها لتقاتل لتحرير أرضها وبدعمٍ من الحزب، وهو الأمر الذي يحدث الآن. ولولا الأميركيون لما استطاع الإسرائيليون التقدّم إلى داخل غزة وتحمّل هذه الخسائر الكبيرة.
الدولة اليهودية والوعي العام الأميركي
جاء في مقالةٍ طويلةٍ في “نيوزويك ” هذا الأسبوع أنّ “قضية الدولة اليهودية كانت بالنسبة للأميركيين مسألة استراتيجية وسياسية واقتصادية، وفي الوعي العامّ (وليس في وعي الاختصاصيين) ما عادت لدى إسرائيل حاجةٌ عسكريةٌ إلى الولايات المتحدة”. أمّا الحقيقة فهي أنّ إسرائيل (بما هي دولة وكيان يهوديّان) يثبت الآن أنّها في حاجةٍ إلى الحماية العسكرية أيضاً، وبدون ضرورةٍ للتدليل على أنّ ذلك من ضرورات الأمن القومي الأميركي. إنّها بمنزلة الولاية الأميركية التي نزل بها زلزال أو عاصفة. وهذا الزلزال سيظلّ يتكرّر إلى ما لا نهاية. وإذا قيل: لكنّ الأميركيين قد يملّون فيتهدّد الخطر اليهود! نعوم تشومسكي اليهودي المنشقّ قال مرّة: لا خوف على اليهود، فالمجتمع اليهودي الأصليّ في الولايات المتحدة وليس في إسرائيل، وما لم تتعرّض الولايات المتحدة لخطر، فكذلك لن يتعرّض اليهود!
الذي تهدّد بالفعل ليس الثقة بقدرات الجيش على الانتصار، بل والثقة بأنّه يمكن أن يدافع عن أمن المواطنين دونما حاجةٍ عسكرية وأمنيّة إلى الولايات المتحدة. وهي الحجّة التي يستخدمها أنصار وقف الحرب، ومنهم غوتيريش الأمين العامّ للأمم المتحدة الذي أزعج الأميركيين كثيراً بهمومه الإنسانية، وهمومه تجاه عجز مجلس الأمن واختراق القانون الدولي.
الحجّة الأميركية الأولى لإعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لاستمرار الحرب المدمّرة للإنسان والعمران: استعادة المعنويات والثقة بالدولة الإسرائيلية وجيشها. وهي حجّةٌ يجادل فيها الكثيرون، لأنّه على فرض نهاية حماس، فلن يأمن الإسرائيليون وسط سبعة ملايين فلسطيني أرضهم محتلّة وهم قيد الاضطهاد والتمييز والقتل والسجن ومصادرة الأراضي وصناعة المستوطنات كلّ يوم: كيف تأمن وأنت تستعبد أو تسكت عن استعباد بشرٍ مثلك؟ لقد ضعفت فتح ومنظمة التحرير لأنّ ياسر عرفات سار بالحلّ السلمي وسعى إلى تسوية عادلة، ولم يستطع السياسيون الإسرائيليون بعد قتل إسحاق رابين الإبقاء على أوسلو، وجرت تقوية حماس على الهجمات الانتحارية بالداخل لتدمير حظوظ السلام، فلا راديكالية إلّا وتواجهها راديكاليّةٌ من جنسها.
قبل المصير إلى نقطة التحوّل الممكنة، هناك الحجّة الثانية لاستمرار الحرب، وهي أنّ ضرب حماس يمنع نشوب حروبٍ جديدةٍ، ولذلك تريد إسرائيل الآن، وقد أطمعها الدعم الأميركي غير المحدود، أن تضرب الحزب أيضاً بحجّة إبعاده عن جنوب الليطاني بحسب القرار الدولي رقم 1701. وما منعها من ذلك إلّا المعارضة الأميركية، وبدون الولايات المتحدة لا تستطيع إسرائيل خوض الحرب، وأقصى قوّتها غزو المخيّمات في الضفّة الغربية! وغنيٌّ عن البيان أنّ من المشكوك فيه كثيراً القدرة على إنهاء حماس باعتبارها عقيدةً وليست تنظيماً فقط، وبخاصّة أنّ الشعب الفلسطيني محتلّ وليس عنده أمل بسلامٍ يحرِّر الأرض. وهكذا سيجد القتال على الرغم من عدم تحريره شبراً من الأرض، دائماً أنصاراً بين اليائسين والمتحمّسين.
هموم أميركية ثلاث
يقول الأميركيون إنّ عندهم الآن ثلاثة هموم: مستقبل غزة بدون حماس، وعدم توسُّع الحرب، والسير في حلّ الدولتين. وكما سبق أن ذكرتُ في عدّة مقالات صار حلّ الدولتين أكثر صعوبة بكثير، فالجمهور الإسرائيلي ما عاد يسمع بشيء من ذلك منذ قرابة عقدين، واليمينيون الذين يريدون إلغاء القضية هم الحاكمون، والإدارة الأميركية قد تتغيّر بعد سنة، هذا إذا صدّقنا حماستها لحلّ الدولتين.
يبدو الأميركيون واثقين من قدرتهم على الدخول في الحلّ مع موافقة الإسرائيليين ومشاركتهم بالطبع. لكنّهم يخشون التحرّشات من إيران وميليشياتها في كلّ مكان، وأهمّها الحزب بلبنان. ثمّ من قال إنّ أبا مازن الذي تُعقد عليه هذه الآمال الكبار ستكون إدارته قادرةً على تولّي المسؤوليات الجسام في غزة وغيرها، وقد فقد كلّ ثقةٍ وشعبيةٍ من الجمهور؟!
أخيراً وليس آخِراً لنستمع إلى مقولة جدعون ليفي المسؤول الإسرائيلي الكبير السابق: إسرائيل أضاعت روحها وعلى أميركا إنقاذها إذ لم تعُد تستطيع إنقاذ نفسها. إسرائيل صارت دولة حربٍ دائمة على الرغم من اعتمادها على أميركا في الحرب والسلم. هناك خلال السلم خوفٌ من الحرب، وخلال الحرب هناك خوفٌ أن تتخلّى عنها أميركا، وأن لا يكون الانتصار ساحقاً.
ما عادت إدارة الأزمة ممكنةً كما في السابق، بمعنى أنّه بعد كلّ نزاع تأتي هدنة مُدارةٌ عن بُعد لعدّة سنوات. الإسرائيليون لا يقبلون، وكذلك الفلسطينيون، بعد التكاليف الهائلة لهذه الحرب لدى كلّ الأطراف حتى الميليشيات العراقية واليمنية. لقد صار السلام ضرورياً لصون ما بقي من الإنسان والعمران. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.