عماد الشدياق نقلاً عن “إيلاف”
زيارة خاطفة لم تتعد مدتها الـ24 ساعة، قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الخميس الفائت، إلى كلّ من الإمارات والسعودية، لكنّ قيمتها كانت أكبر من أن تُقاس بعدد الساعات، لأنّ الزيارة جاءت في ظل أحداث دامية يشهدها الشرق الأوسط، وفي ظل حصار غربي، وعقوبات مفروضة على روسيا وكذلك في ظل توقيت دقيق يتعلق بأمن الطاقة وإجراءات “أوبك بلاس” لخفض الإنتاج العالمي للنفط.
في نظر موسكو، فإنّ العالم يشهد اليوم تحولات كبيرة، كانت بداية مع الحرب الروسية – الأوكرانية التي بدأت معالمها تظهر لصالحها مع فشل الهجوم الأوكراني المضاد، وبالتالي فشل حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تحقيق أهدافه.
كما أنّ الامر نفسه بدأ يحدث مع إسرائيل في حربها ضد حركة “حماس” في قطاع غزة، حيث بدأت تل أبيب تتراجع عن الأهداف التي رسمتها لنفسها بداية الحرب، وكذلك مع فقدانها منذ بداية الحرب إلى اليوم، معركة الرأي العام الذي تخلى تدريجياًعن فكرة دفاع إسرائيل عن نفسها بشكل مطلق.
قيادات عربية… للمستقبل
هذا كلّه، يترافق أيضاً مع ظهور ما بات يُعرف بـ”قادة المستقبل”. أي قادة الدول الصاعدة التي تؤمن بتعدّد الأقطاب بالشراكة مع الجميع، وعلى رأس هذه الدول السعودية والإمارات.
في نظر موسكو أيضاً، فإنّ للسعودية أهمية بالغة في هذه السردية. فالمملكة هي دولة رائدة في العالم الإسلامي، كما لديها أكبر اقتصاد لدولة عربية. تتعاون مع روسيا في مجال الطاقة التقليدية والنووية، وهي شريك كبير لروسيا في منظمة “أوبك بلاس”.
حجم التبادل التجاري بين روسيا الاتحادية والمملكة بلغ حتى شهر أيلول (سبتمبر) 2023 قرابة 3.15 مليار دولار، وتجمعها بموسكو اتفاقات في مجالات الزراعة والصناعة والاتصالات، وكذلك في مجال التعاون الدفاعي، إضافة إلى مذكرة تفاهم استثمارية مشتركة تصل إلى 10 مليار دولار.
أمّا الإمارات فهي من الدول الرائدة في مجال التعاون مع دول الشرق والغرب، كما أنها أكبر شريك تجاري لروسيا، وتتشارك معها في منظمة “أوبك بلاس”، وكذلك في استثمارات ومشروعات ضخمة في قطاع النفط والغاز. ارتفع التبادل التجاري مع موسكو بنسبة 63% حتى أيلول (سبتمبر) 2023، وتسهم أبوظبي بنحو 80% من الاستثمارات العربية في روسيا، كما تستحوذ على 90% من الاستثمارات الروسية في المنطقة العربية، ناهيك عن احتضانها نحو 4 آلاف شركة روسية على أراضيها.
أضف إلى هذا كلّه، فإنّ السنوات القليلة الماضية شهدت العلاقات الخليجية والشرقية (روسيا والصين) تطوراً كبيراً، وذلك منذ زيارة الرئيس بوتين إلى الخليج في العام 2019، التي مهدت للتعاون بين دول الخليج وروسيا في مجالات عدّة. وقد عزّز من تلك الفرص الموقف الوسطي الذي تبته الرياض وأبو ظبي من الحرب في أوكرانيا، وكذلك موقفها تجاه روسيا في إطار “أوبك بلاس” وفي مجال مواجهة الضغوط الغربية ورفضها العقوبات.
وفوق ذلك، فإنّ بوتين كان الرئيس الوحيد، بين رؤساء الدول الكبرى، من حضر قمة الـ20 في الأرجنتين في العام 2020 وأشاد بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حمأة المقاطعة الغربية للمملكة، وهو موقف لم ينسه الأمير الشاب.
الصراع في غزة هو البوصلة
قبل الزيارة، سبق أن أعلن الكرملين عن أنّ زيارة بوتين إلى الخليج، ستتناول ملفات عدّة، بعضها ثنائيّ وبعضها الآخر إقليمي ودولي، وعلى رأس تلك الملفات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المسلّح الدائر في قطاع غزة منذ أكثر من شهرين، والذي توليه موسكو أهمية كبرى وتحاول من خلالها أن تثبّت 3 أمور:
1. أنّ العزلة الغربية المفروضة على روسيا لم تعد فاعلة.
2. أنّ أحادية الولايات المتحدة القطبية إلى أفول.
3. أنّ نظاماً آخراً بديلاً متعددَ الأقطاب قيد التشكّل.
تعتبر موسكو وحلفاؤها مثل الصين وغيرها من الدول، أنّ الولايات المتحدة باعتبارها القطب الأوحد في النظام العالم الحالي، قد فشلت على مدى 75 سنة في إيجاد حلّ لهذا الصراع. كما ترى أنّ إجبار إسرائيل المدعومة بشكل مطلق من واشنطن، على قبول بـ”حل الدولتين” هو مدخل من أجل فرض نظام عالمي متعدّد الأقطاب، باعتبار أنّ إسرائيل تستمد القوة رفضها لهذا الحلّ من قوة واشنطن، وبالتالي فإنّ كسر إرادة إسرائيل اليوم هو إثبات بأنّ الأحادية القطبية باتت عاجزة عن حلّ النزاعات الدولية، وأنّ لا مفر ولا مهرب من التعاون مع بقية الدول من أجل حلّ النزاعات.
ويبدو أنّ روسيا تحاول من خلال ذلك أيضاً، إعادة إحياء “اللجنة الرباعية” أو “رباعية مدريد” المنشأة للبحث في عملية السلام، تلك الرباعية التي تضمّ الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي أنشئت في مدريد عام 2002.
موسكو تعتبر أنّ خلوّ تلك اللجنة من أيّ دولة عربية فاعلة، كان سبباً لعدم نجاح مهمّتها كل تلك السنوات. وكذلك ترى أنّ الولايات المتحدة قد أخفقت في لعب دور “الوسيط النزيه”، فكانت طوال تلك السنوات منحازة إلى الجانب الإسرائيلي.
موسكو بديلاً عن واشنطن؟
موقف روسيا تجاه النزاع العربي – الإسرائيلي مبدأي، وهو ضرورة وقف إراقة الدماء بالتالي وقف إطلاق النار في غزة، وثانيا منع انتشار العنف إلى الضفة الغربية والأردن. وكذلك العودة إلى آلية التفاوض مع دعوة الجميع إلى المشاركة في الحلّ. أي بمعنى آخر، إنشاء نظام متوازن مع استعداد موسكو لأن تكون دولة ضامنة لهذا الحلّ.
تعتبر موسكو أنّ علاقاتها مع الأضداد مثل إيران أو إسرائيل يمنحها دوراً أكثر تقدما من الدول الغربية الأخرى، ومن هذا المنطلق تذكّ بأنّ دبلوماسيتها المتوازنة كان لها الدور الفاعل في إعادة تطبيع العلاقات بين دمشق والدول العربية. وبالتالي فإنّ قدرة الدبلوماسية الروسية على التنسيق تمكنها من تأدية دور مفقود لدى الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية.
وما يعزز هذه النظرية اليوم، هو تعطّل فعالية المؤسسات الدولية. فكل ما نراه هو كسر لدور تلك المنظمات، وعدم احترام قراراتها وتوصيات (ممثل إسرائيل يمزق ميثاق الامم المتحدة في إحدى الاجتماعات) وبالتالي فإن هذا كله يعيد إلى الأذهان الصورة التي سادت بين الحربين العالميتين.
في تلك المرحلة دخل العالم في مخاض، نتج عنه لاحقاً، ولادة مرحلة جديدة أفضت مع الوقت إلى ثنائية قطبية مع الاتحاد السوفييتي، ثم أحادية قطبية أفسدت كل شيء. بينما المتغيرات اليوم تمّهد الطريق أما أخرى متعددة وأكثر توازناً.