كتب حسن إسميك…
من بين أخطاء التفكير المتعددة، ثمة خطأ منهجي يمكن تسميته وهم التماثل، وهو باختصار أن يكتفي العقل بالتركيز على بعض السمات العامة وغير الجوهرية بين ظاهرتين أو حدثين (أو مشكلتين) ليحكم بأنهما متشابهتان، وبأن ما ينطبق على الأولى ينطبق على الثانية، ومن ثم فإن الحلول التي نجحت في الأولى ستنجح في الثانية أيضاً. هذا الوهم (أو هذه المغالطة إن صحت التسمية) نادراً ما يقع في المسائل العلمية الطبيعية التي تكون موضوعاتها وظواهرها متمايزة عن بعضها بعضاً بشكل واضح وجليّ، في المقابل يشيع انتشاره (أي الوهم) كثيراً في المجالات والعلوم الإنسانية ومشكلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وسبب ذلك في الغالب، وهذا أمر يعرفه العلماء جيداً، أن الظاهرة الإنسانية تُعدّ شديدة التعقيد ويتدخل فيها عدد لا يمكن حصره من العوامل والأسباب المؤثرة والفاعلة، على العكس من الظواهر الطبيعية التي رغم ما يُشاع عن تعقدها وصعوبة فهمها، إلا أنها أبسط من الظاهرة الإنسانية بكثير. بقول آخر؛ يسهل فهم الظاهرة الطبيعة لأنها لا تغير سلوكياتها ولا تفرض رغباتها ولا تمتلك إرادة حرة أو قدرة على القرار، أما الظواهر التي تتصل بالإنسان فيصعب تنميطها أو السيطرة عليها لأنه يمتلك كل الصفات السابقة.
مناسبة هذا الكلام ملاحظتي لبعض الردود التي أثارتها مقالة نشرتها أخيراً كان موضوعها عن تداول العرب قضية الحرب على غزة في وسائل التواصل الاجتماعي، ولقد أثار استغرابي بحق كيف أن كثيراً من العرب ما زالوا ينظرون الى وجود إسرائيل ودولتها على الأراضي الفلسطينية كوجود أي استعمار غربي سابق وقع في القرنين الماضيين (وهذا جوهر وهم التماثل)، ليستنتج هؤلاء أنه كما تحررت البلدان العربية من الاستعمار بالمقاومة والكفاح المسلح وحركات التحرر الوطني، فهكذا يمكن تحرير فلسطين، ولذلك لا يكفون عن الدعوة إلى إعلان الحرب وإعلان المقاومة من منطلق قومي أو وطني، أو الدعوة إلى الجهاد من منطلق ديني إسلامي، ولكنهم كما جرت العادة، هم يدعون فقط وينتظرون من غيرهم تلبية هذه الدعوة!
ومع أن كل قصص التحرر العربي من الاستعمار هي ملاحم بطولية وحالات وجدانية يتمثلها العرب بالفخر والاعتزاز، وبخاصة الجزائر مثلاً وشهدائها المليون، أو ليبيا أو سوريا، إلا أننا لا يمكن أن ننظر الى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بهذا المنظار ذاته، ولا يمكن اختزال هذه القضية وما فيها من عناصر جديدة ومستجدة كل يوم لنطابقها مع أشكال الاستعمار الأوروبي للأراضي العربية، فلا الزمان هو الزمان نفسه، ولا المكان هو المكان نفسه، ولا حتى كلمة الاستعمار ذاتها تنطبق على هذا الصراع.
من حيث المبدأ.. كان المحرك الأساس للاستعمار الأوروبي هو السيطرة على الأراضي بقصد امتلاك ثرواتها أولاً، وتحقيق أهداف استراتيجية دولية /سياسية وعسكرية/ ثانياً، وغالباً ما ارتبطت الأيديولوجيا التي تبرر هذا الاستعمار وتمنحه الشرعية بنظريات وسرديات ثقافية وفلسفية تستند إلى مفاهيم لا دينية كرستها نهضة الأوروبيين وشعورهم بالتفوق والمركزية العالمية، كمفهوم التحضر والتقدم الصناعي والتمييز بين الأوروبي المتنور والشرقي البدائي أو المتخلف. أما احتلال إسرائيل لأراض فلسطينية فهو حدث تاريخي غير مسبوق ولا مثيل له، إذ مقابل احتلال الأراضي والسيطرة على ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية بغض النظر عن أهلها المقيمين عليها، والذين يمثلون في كل مشروع استعماري خزان القوة البشرية العاملة التي يحتاجها، فإن احتلال إسرائيل كان موجهاً لمدن فلسطين وليس أراضيها، وإلى إخراج أهلها منها واستبدال اليهود بهم، وعلى رأس هذه المدن القدس ذاتها، وليس ثمة مدينة عربية أو عالمية تشبه القدس، فهي نقطة التقاء الأديان السماوية الثلاثة؛ ثم محطة انطلاقها وعبورها إلى العالم، فيها حائط المبكى، والذي يقع على جانب الحرم القدسي (أو المسجد الأقصى)، وهو قبلة اليهود وإليه حجُّهم، وفي القدس أيضاً ضمن أسوارها القديمة وعلى قرابة خمسمئة متر من المسجد الأقصى تقع كنيسة القيامة التي يؤمن المسيحيون أن يسوع دُفن فيها وقام من الموت.. وإليها يحجّون أيضاً. وللمسلمين في القدس المسجد الأقصى بكل ما عليه من مساجد صغيرة (المصلى الغربي والصخرة والمصلى المرواني ومصلى البراق) ومآذن وقباب؛ فهو مكان إسراء النبي عليه الصلاة والسلام ومعراجه، وأولى قبلتي المسلمين وثالث المساجد التي يحجّون إليها، وما حائط البراق عند المسلمين إلا حائط المبكى ذاته عند اليهود لكن من جهتين وارتفاعين مختلفين.
وللقدس باعتبارها تضمُّ المسجد الأقصى، أو القبلة الأولى، شأن عقائدي خاص لدى المسلمين، إذ ثمة إجماع على أن تكريس مفهوم القبلة وأهميتها جاء متطوراً في الإسلام عن اليهودية والمسيحية، فالتوجه الى بيت المقدس في الصلاة جاء بأمر إلهي مباشر، والتحول عنه إلى البيت الحرام كان بأمر إلهي أيضاً، ويعزو علماء الدين أسباب هذا التحول إلى مغزى توحيدي مفاده أن يكون الله سبحانه، وليس المكان بذاته، هو الغاية النهائية من الإيمان والتعبد. بينما كانت القبلة في اليهودية والمسيحية من اختيار الأنبياء أنفسهم واجتهادهم، وعموماً فقد مثَّل تطور الاهتمام بمفهوم القبلة عبر الأديان الثلاثة جزءاً أصيلاً من هوية كل دين، وأصبحت أهميته واحدة على الأقل في اليهودية والإسلام، أما المسيحية فمع إضافة كنيسة القيامة كمكان للحج المقدس، فإنها أيضاً تستند إلى العهد القديم في أحكامها وتشريعاتها. يمكن القول أكثر من ذلك، أن ما نعرفه اليوم عن شكل المحراب الإسلامي الذي يمثل تجويفاً في الجدار أمام المصلي، فإنه لا يمثل القبلة بحد ذاته، بل الإشارة إلى اتجاه القبلة التي بدأت من مفهوم الجدار نفسه (أو الحائط) باعتباره الستر الذي يفصل المصلي عمّا حوله، أفليس هذا ما مثله حائط البراق في بداية فرض الصلاة على المسلمين؟ ثم مثلته جدران الكعبة في مرحلة تالية؟
ثمة أمر آخر يرتبط بمفهوم القبلة وتحولها من بيت المقدس إلى البيت الحرام في العقيدة الإسلامية، إذ يخبرنا القرآن الكريم أن أول بيت مقدس وضع للناس كان بمكة على يد إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام، ومن ثم يقيس عليه أصحاب الرأي أن المسجد الأقصى هو ثاني البيوت المقدسة من الناحية التاريخية، وإن كنّا لا نعرف تاريخ بنائه فإن الرأي يقودنا أيضاً الى أن بانيه هو إبراهيم عليه السلام أيضاً لكن مع ولده إسحاق، وهذا ما تضمنته التوراة التي تروي تفاصيل قريبة من التفاصيل القرآنية، ومنها أن الله يأمر إبراهيم بالتضحية بإسحاق ثم يفديه، يؤمن المسلمون أن الذبيح هو إسماعيل وأنه فُدي بكبش عظيم. وبغض النظر عن هذا الفارق بين العقيدتين، فقد مثّل تأسيس البيت وإقامة قواعده على يد إبراهيم وولده، وما رافقه من اختبار أو ابتلاء، أحد المصادر الأساسية التي ستعود إليها الأديان السماوية الثلاثة دائماً، مثّل ذلك أيضاً الدليل العقائدي على أن هذه الديانات الثلاث إنما خرجت من مشكاة نور واحدة. وأن القدس سفارة هذه الأديان على الأرض.
لأجل ذلك كله، ولأجل هذا الغنى التاريخي والروحي الذي يتنافس عليه أتباع الكتب السماوية الثلاثة، فإن احتلال هذه المدينة، والذي لم ينقطع عبر أربعة آلاف لم يكن يوماً مدفوعاً بسبب ثرواتها أو معادنها أو خصوبة تربتها، وإنما بسبب رمزيتها الروحية العميقة في الثقافة الإنسانية، ولبعدها الديني الضارب في جذور العصور القديمة. ولذلك سيبقى التنافس حولها مستمراً عبر التاريخ.
لقد فتح المسلمون بيت المقدس حين هزموا البيزنطيين وبقيت المدينة تحت السيطرة الإسلامية قرابة 400 عام، ثم احتلها المسيحيون الغربيون لقرابة 90 عاماً خلال الحملات الصليبية الشهيرة التي استمرت قرابة 200 عام، ثم عادت للمسلمين مرة أخرى ليحتلها اليهود خلال القرن الماضي سنة 1967 بعد أن بدأوا باحتلال الأراضي الفلسطينية سنة 1948، أي سنة إعلان الدولة اليهودية. وبغض النظر عن حقائق التاريخ لا يعتبر اليهود أنفسهم مستعمرين يفرضون سيطرة دولة بعيدة على دولة أخرى، بل يؤمنون أن وجودهم في القدس أمر عقائدي وأنها الأرض المكتوبة لهم في التوراة، ولقد أصبح هذا الاعتقاد الديني واقعاً سياسياً واجتماعياً معترفاً به عالمياً، فمن يتواجد في إسرائيل اليوم ليس جيوشاً مستعمرة تأتمر بأمرة دولها البعيدة، بل دولة وشعب يهودي وُلدت أغلبيته العظمى على هذه الأرض.
يضاف الى ذلك أيضاً أن احتلال اليهود لفلسطين، ثم قيام دولة إسرائيل، ثم توسعها، أمر لم يحدث بين يوم وليلة، كما لم يحدث بقوة اليهود أنفسهم فحسب، بل بدأ كمشروع عابر للدول الأوروبية منذ قيام الحركة الصهيونية نهايات القرن التاسع عشر على يد ثيودور هرتزل، والذي توفي قبل إعلان الدولة الإسرائيلية بأكثر من أربعين سنة. لقد جاء احتلال فلسطين بترتيب غربي قاده الاستعمار البريطاني لفلسطين والذي استمر منذ 1922 حتى 1947، ومنذ 1948 حظيت إسرائيل بالدعم الأوروبي ثم الأميركي لضمان بقائها وتوسعها وانتصارها في أغلب الحروب التي خاضتها ضد العرب. ولكن أهداف هذا الدعم لم تكن دائماً كرمى لعيون اليهود أو بدافع محبة الغربيين لهم، فللأمريكيين خصوصاً وللأوروبيين عموماً أهدافهم الاستراتيجية الكبرى التي يحققها استمرار وجود دولة إسرائيل وتعاظم قوتها، تلك الأهداف التي تقع في قلب الصراع الدولي بشرقه وغربه وموقع شرق المتوسط فيه وثرواته وجغرافيته.
هذه المعطيات جميعها.. أضف إليها أن أميركا (الحليف الرئيس لإسرائيل) هي اليوم القوة العالمية العظمى المهيمنة على العالم، تفرض على العقل أن لا يعامل الاحتلال الإسرائيلي كأي شكل من أشكال الاستعمار الغربي، وتفرض أيضاً استحالة أن يتحرر الفلسطينيون بالفعل ذاته الذي تحررت به الدول العربية واستقلت.
وللأسف.. فإن أسوا ما تفرضه هذه المعطيات أن الحرب في غزة، وفي عموم الأراضي الفلسطينية تسير في نفق مظلم لا أحد يعرف متى ستنتهي وكيف ستنتهي. إن استمرار هذه الحرب بمعطيات اليوم لا يعني انتهائها لمصلحة مظلومية الشعب الفلسطيني وانتصاره، بل لن تؤدي سوى الى المزيد من الضحايا الأبرياء، ولا توجد قوة عسكرية قادرة على إيقافها، عربية كانت أو إسلامية أو شرقية، حتى لو قدّم الفلسطينيون مليون شهيد وأكثر.
أمام هذه المعطيات أخيراً.. يتبين لكل عاقل أن دعوات النفير والمقاومة والتحرر الوطني والجهاد الديني وما يشبهها هي مجرد أوهام وتخيلات وارتجالات كلامية لا وزن لها ولا نتيجة.. لا في الواقع حاضراً، ولا في التاريخ مستقبلاً. وأخشى ما أخشاه أن التفكير بهذا النهج المعوج الذي ما زال أغلبنا يتبناه ويفكر به سيؤدي إلى تضييع غزة بدل تحرير فلسطين!
أما في النهاية فما أودُّ تمنيه هو أن يصبح اجتماع العقائد السماوية الثلاثة على قداسة بيت المقدس رمزاً هادياً وموجِّهاً لأن يكون حلُّ الصراع على هذه المدينة، وعلى فلسطين كلها، مبنياً على إجماع عالمي دولي باعتبار المشترك بين هذه الأديان مدخلاً لحل النزاع حول هذه الأرض المباركة، وإحلال السلام فيها.
لنُقم الصلاة جميعاً، يهوداً ومسيحيين ومسلمين لأجل ذلك.
المصدر: النهار العربي