كتب وليد شقير…
تبقى العين على السلوك الإيراني في شأن احتمالات توسّع الحرب الإسرائيلية على غزة، سواء نحو جبهة جنوب لبنان، أو نحو مياه الخليج العربي والبحر الأحمر نتيجة تحرّشات الحوثيين بالملاحة الدولية، أو في العراق وسوريا، حيث تصاعدت عمليات القصف لمواقع عسكرية أميركية، وصولاً إلى قصف صاروخي استهدف محيط السفارة الأميركية في بغداد أمس.
بقدر الأسئلة التي تثيرها الضربات التي توجّهها أذرع طهران للقوات الأميركية، استدعى التساهل الأميركي في التعاطي معها تسليط الأضواء على مدى عمق التفاهمات بين الدولتين من جهة، وتسبّب ذلك بانتقادات لإدارة الرئيس جو بايدن في الكونغرس من جهة ثانية.
العمليّات “المحسوبة” والمخاطر
ترسل طهران إشارات متناقضة حول مدى التزامها المواقف المعلنة لقيادتها برفض توسيع الحرب، على الرغم من الأنباء بأنّ قناة التواصل العُمانية بين الدولتين نجحت في إرساء التفاهم على الحؤول دون أيّ تصعيد بينهما.
أبرز دلائل اللعبة الخطرة التي تقودها طهران كان إرسال الحوثيين المسيّرات فوق حاملة الطائرات الأميركية دوايت أيزنهاور في مياه الخليج، فضلاً عن مصادرة وملاحقة الحوثيين لسفن تجارية بحجّة أنّها مملوكة لشركات إسرائيلية، ردّاً على المجازر ضدّ المدنيين في غزة. وهو أمر يهدّد أمن الملاحة البحرية عبر باب المندب القريب من الحديدة اليمنية.
تحت سقف إبقاء العمليات العسكرية لأذرع طهران ضدّ إسرائيل والقوات الأميركية مضبوطة و”محسوبة” تفادياً لتوسيع الحرب، حصلت حوادث خطيرة في الأسبوعين الماضيين، وهو ما دفع قائد الأسطول الخامس الأميركي إلى القول إنّ “سلوك إيران غير الآمن وغير المهنيّ وغير المسؤول يهدّد حياة الأميركيين ويجب أن يتوقّف”. هذا فضلاً عن قصف فصائل من “الحشد الشعبي” مواقع عسكرية أميركية في العراق وسوريا وتصاعد العمليات الحربية على جبهة جنوب لبنان بين الحزب ومعه “حماس” وفصائل فلسطينية، وبين الجيش الإسرائيلي. وتحصي مصادر أميركية زهاء 75 هجوماً وقعت ضدّ المواقع الأميركية في سوريا والعراق منذ 7 تشرين الأول الماضي، نفّذتها الميليشيات التابعة لإيران.
استبعاد طهران عن التفاوض… وما بعد غزّة
ما الذي يدفع القيادة الإيرانية إلى المخاطرة عبر أذرعها في شكل يتجاوز محاولتها إزالة الحرج عنها إزاء مساندة “حماس” كطرف حليف في محور الممانعة؟
يسجّل مراقبون جملة عوامل، منها:
1- على الرغم من أنّ تبرئة واشنطن لإيران من الضلوع في عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول هدفها منع توسّع الحرب، فإنّ دول الغرب صنّفت العملية في خانتها من دون أن تحمّلها المسؤولية. لكنّ ذلك ترافق مع تجاهل الجانب الإيراني في التفاوض حول الهدنة الإنسانية وعملية تبادل الأسرى والرهائن بين “حماس” وإسرائيل، مع أنّ وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أبدى استعداداً للعب دور في تسهيل عملية التبادل، ونصح “حماس” بإطلاق الأجانب لتخفيف الحملة ضدّها في دول الغرب.
2- يجري استبعاد طهران عن البحث المتّصل بما بعد غزة والترتيبات المنتظرة عند انتهاء الحرب، والاقتراحات الأميركية والأوروبية في شأن إدارة القطاع، حيث تشدّد الدول الغربية على استبعاد “حماس” وعلى تسلّم السلطة الوطنية الفلسطينية شؤون غزة، ويتمّ البحث في هذا الأمر مع السلطة لا مع “حماس” حليفة طهران.
طهران وأمن الملاحة البحريّة
3- على الرغم من اندماج إيران في الجهد العربي – الإسلامي لوقف إطلاق النار في غزة ولإزالة الحصار عنها بعد القمّة العربية الإسلامية في الرياض في 11 تشرين الثاني الماضي، فإنّ اللجنة الوزارية التي كُلّفت من القمّة بالتواصل مع العواصم الرئيسة لتحقيق قرارات القمّة لم تضمّ طهران، بحيث باتت مستبعدة عن الاتصالات الدولية لترتيب أوضاع غزّة.
4- طهران تدرك أنّ التفاهمات الدولية على غزة لا بدّ من أن تطلق ترتيبات تشمل أوضاعاً أخرى في المنطقة، من الممرّات المائية إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وسبق لطهران أن طرحت منذ سنوات فكرة التنسيق بينها وبين دول الخليج لحفظ أمن مياهه، من دون الاتّكال على الأساطيل الأميركية. وهذه مسألة حيوية بالنسبة إلى نفوذ طهران الإقليمي، فضلاً عن أنّها موضوع تقاطع مع روسيا التي سبق أن اقترحت صيغة تنسيق مشتركة بين دول المنطقة لحماية ممرَّي باب المندب ومضيق هرمز.
تعويض عن تجنّب نصرة غزّة
لا تخلو بعض مظاهر التصعيد العسكري، إن باستهداف مواقع أميركية أو بمواجهات ضدّ إسرائيل، سواء من لبنان أو من سوريا، أو عبر صواريخ الحوثيين نحو إيلات، من التوظيف والاستثمار السياسي الداخلي بالنسبة إلى طهران، حيث تحتاج إلى تبرير سياستها المتشدّدة حيال الولايات المتحدة وإسرائيل بعد عقود من التعبئة حول خوض معارك من أجل القدس وفلسطين، والتي استنزفت مالاً وإمكانيات حُرم منها الإيرانيون.
يهتمّ الطاقم الحاكم في إيران لمصداقيته، ولأن يثبت للجمهور العريض الذي ينتقد أحياناً تلكّؤ طهران في نصرة غزة إزاء الحملة الوحشية التي تتعرّض لها غزة والمدنيون فيها، أنّه يدعم تحرّك حلفائه ضدّ الأميركيين والإسرائيليين.
لكنّ مصادر إقليمية ترى أنّ الأمر يتجاوز الحفاظ على المصداقية إلى تمسّك طهران بمواقع نفوذها، لا سيما في العراق، إضافة إلى اليمن ولبنان، في حال أدّت الحملة العسكرية إلى إضعاف الحليف الفلسطيني “حماس”.
تخبّط المواقف الأميركيّة والاسترضاء
مقابل ذلك تتّسم ردود فعل واشنطن على قصف قواعدها في العراق وسوريا وفي البحر الأحمر قرب باب المندب بالتخبّط. في 4 كانون الأول الجاري قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان: “لدينا ما يدعو إلى الاعتقاد أنّ إرسال مسيّرات أطلقها الحوثيون مدعوم بالكامل من قبل إيران. وكلّ المسيّرات في منطقة البحر الأحمر تأتي من إيران”. وفي اليوم نفسه أعلنت القيادة المركزية الأميركية أنّ قواتها اشتبكت “مع خمسة مسلّحين كانوا يستعدّون لإطلاق مسيّرة قرب كركوك”. ثمّ أكّدت مصادر أميركية لفضائية “الحدث” أنّ “الحرس الثوري الإيراني والحزب زوّدا الحوثيين بتدريبات وبتكنولوجيا جديدة وإيران استفادت من وقف النار (في غزة) لتزويد الحوثيين بأسلحة جديدة بعيداً من الرقابة”.
في اليوم التالي، 5 كانون الأول، نقلت وكالة “تسنيم” الإيرانية عن مندوب إيران لدى الأمم المتحدة بأنّ “طهران لم تشارك في أيّ أفعال ضدّ القوات الأميركية”. فما لبث البنتاغون أن خفّف من وطأة ما يحصل في البحر الأحمر، إذ أشار إلى أنّ “الهجمات التي شنّتها جماعة الحوثي المدعومة من إيران ربّما لا تستهدف السفن الحربية الأميركية”. ثمّ عاد الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي فأعلن نيّة بلاده زيادة عدد القوات الأميركية في البحر الأحمر والمياه المحيطة.
إلا أنّ وسائل الإعلام الأميركية نسبت إلى مصادر في البنتاغون قولها إنّ البيت الأبيض فرض “كلّ قيد ممكن على قدرات وزارة الدفاع للردّ على هجمات الوكلاء الإيرانيين.” ويقول منتقدو جو بايدن إنّ نهجه شجّع إيران ووكلاءها على الهجوم على القواعد والمنشآت الأميركية وحلفائها في المنطقة. ويعتبر البعض أنّ استراتيجية بايدن تجاه طهران هي “الاسترضاء”، ويطالبون باتخاذ إجراءات أكثر صرامة.