كتب مالك التريكي في القدس العربي
يبدو أن موقف بعض شرائح الرأي العام الأمريكي من القضية الفلسطينية قد تطور نسبيا نحو فهم أصح للوقائع واستبانة أوضح للصورة. ولعل أهم عناصر هذا التطور هو الوعي الجديد بأن الظاهرة الإسرائيلية هي في الأصل ظاهرة كولونيالية غربية، أي أن المشكلة في فلسطين هي مشكلة احتلال وليست مشكلة سلام، وأن الحل هو إنهاء الاحتلال وليس إحلال السلام (بمعنى أن السلام سيحل تلقائيا حالما يزول الاحتلال، فلا يكون السلام في حكم المؤكد إلا عندما لا يطلب لذاته). والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق طرف وحيد هو دولة إسرائيل المدججة بالسلاح الأمريكي وبمئات المليارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
ومثلما أن موقف الرأي العام الأمريكي من الاحتلال الإسرائيلي قد تطور، فإنه يبدو أن موقف صحيفة النيويورك تايمز، كبرى الصحف الأمريكية الليبرالية، قد تطور أيضا نحو توسيع نسبي للمسافة التي تفصلها عن السرديات الإسرائيلية. ومن علامات ذلك أن كثيرا من القراء والمتابعين العرب قالوا في وسائل التواصل إن التقرير الذي نشرته النيويورك تايمز قبل أيام بعنوان «المدنيون في غزة يتعرضون لوابل من القصف الإسرائيلي ويقتّلون بوتيرة لا نظير لها تاريخيا» دليل على أن شيئا ما قد تغير في أمريكا.
ومما يبيّنه التقرير أن التقتيل الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي في غزة لا سابق له منذ بداية هذا القرن، فهو أعلى وأسرع بكثير مما وقع حتى في أشد الهجمات فتكا أثناء الحروب الأمريكية على العراق وسوريا وأفغانستان التي انتقدتها منظمات حقوق الإنسان بالغ الانتقاد لشدة فتكها وكثرة قتلاها وجرحاها من المدنيين. واستشهدت بخبراء عسكريين غربيين قال بعضهم إن نسبة القتلى الغزاويين في الأسابيع القليلة الماضية عالية علوا لا مثيل له منذ عقود، وإنه لا يمكن مقارنتها إلا بنسبة التقتيل والتهديم أثناء حرب فيتنام والحرب العالمية الثانية. وذكرت الصحيفة أن الخبراء ليسوا مندهشين من اتساع نطاق القتل فقط، بل ومن كثرة استخدام الجيش الإسرائيلي، في أحياء غزة ذات الكثافة السكانية العالية، لأسلحة ثقيلة جدا تشمل قنابل أمريكية الصنع تبلغ زنتها 2000 رطل يمكن لكل منها أن تهدم برجا سكنيا فتسوّيه أرضا. ولتوضيح الصورة قالت النيويورك تايمز إن المسؤولين العسكريين الأمريكيين يعتقدون أن القنبلة الأمريكية الأكثر استخداما، والتي تبلغ زنتها 500 رطل، كانت أثقل بكثير مما يتطلبه تدمير معظم الأهداف الداعشية في المناطق السكنية في الموصل والرقة. ولهذا فإن عدد من قتل من الأطفال والنساء في غزة في أقل من شهرين أكبر بكثير ممن قتلوا طيلة العام الأول من الغزو الأمريكي للعراق.
وقد كتب بعض المتابعين الغربيين أن النيويورك تايمز بدأت تنشر مثل هذه التقارير لأن موقف الرأي العام بدأ يتغير ولأنها متخوفة من خسران مشتركين كثر إن هي لم تسارع إلى الانسجام مع الرأي العام. ولكني لا أرى ذلك. صحيح أن الجريدة فتحت صفحات الرأي لبعض الكتاب الفلسطينيين، وصحيح أن معلقها نيكولاس كريستوف لا يزال ينشر، على عادته، مقالات متميزة بالصدق الإنساني والحرص على تحري الحق والإنصاف. ولكن النيويورك تايمز لم تحد كثيرا عن تعاطفها المعهود مع إسرائيل.
دليلان: أولهما متكرر، وهو تعليقات كاتبها الأشهر توماس فريدمان. أما الدليل الثاني فهو الافتتاحية التي نشرتها يوم 25 نوفمبر هيئة التحرير، وهي لجنة من كتاب الرأي المستقلين عن قاعة الأخبار، بعنوان «الطريق الأوحد». إذ لم تخرج هذه الافتتاحية عن ترداد الموقف الأمريكي المعروف: أن السلام ممكن وأن الأغلبية من الجانبين راغبة في السلام، ولكن الأقلية المتطرفة من الجانبين هي التي تمنع الحل السلمي بأعمال العنف المتكررة لأن كلا منها يؤمن بوجوب إقامة دولة، فلسطينية أو إسرائيلية، من النهر إلى البحر. صحيح أن الصحيفة تؤكد أن نتنياهو لم يأْلُ منذ عام 1996 جهدا في سبيل الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية، وأنها تؤكد أن هذا ليس صراعا بين طرفين متكافئين، بل إن إسرائيل هي القوة المهيمنة. ولكن النيويورك تايمز لا تزال تروّج للخرافة الغربية القائلة بأن باراك عرض على عرفات (ثم تبعه أولمرت فعرض على عباس) تسوية معقولة، إلا أن القيادة الفلسطينية رفضتها. والعجيب أن الجريدة الليبرالية لا ترى أي تناقض في موقفها عندما تشرح أن هذه التسوية «المعقولة» تسوية «أليمة تتضمن تنازل الفلسطينيين عن كل مطلب»!